رؤية من فلسطينيي الداخل
|
من يستمع إلى مؤلف هذا الكتاب، ساري نسيبة، تلميذ محسن مهدي في هارفارد والمستضيء بأنوار الفارابي وابن سينا والنزعة العربية الإسلامية في أعلى ذراها تألقا؟ لا أحد. كلهم يركضون وراء الأصوليين الذين تجرأ بعضهم على رفع راياتهم وشعاراتهم البائسة حتى هنا في قلب باريس عاصمة النور والحضارة والتنوير! هذا شيء مرفوض قطعا. المستقبل ليس لمتطرفي حماس والظواهري وبن لادن، ولا لليمين الإسرائيلي المتطرف الذي فقد صوابه. وإنما هو لذوي النوايا الطيبة والعقول المستنيرة من كلتا الجهتين الفلسطينية والإسرائيلية، العربية واليهودية. وهم موجودون بكثرة ولكنهم خائفون وصامتون.
ما الذي استفدته من قراءة هذا الكتاب المهم والممتع الصادر أخيرا بالإنجليزية والفرنسية؟ لقد قرأته في زحمة الحرب الهمجية المجنونة على غزة وفهمت أشياء كثيرة لم أكن أعرفها سابقا. فهمت خفايا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من الداخل وبشكل دقيق. لأول مرة أطلع على رؤية عرب الداخل لهذا الصراع وكيف يعيشونه ويعانونه في حين أننا نحن نتفرج عليه من الخارج. والشيء الذي أثلج صدري هو أنه أكد حدسي الأولي بضرورة التوصل إلى تسوية سلمية بين المعتدلين من أجل تحييد المتطرفين من كلتا الجهتين. فلا نحن نستطيع تدمير إسرائيل وإزالتها من الوجود. ولا هي بقادرة على محو فلسطين وتدميرها على الرغم من كل الطاقة العسكرية الجهنمية التي تمتلكها والتي صبتها بكل وحشية على غزة مؤخرا.. وبالتالي فلا مفر من التعايش ووضع حد لهذا الصراع المدمر الذي طال أكثر مما يجب. سوف يصعق بعضهم هذا الرأي وربما أزعجه كثيرا. ومع ذلك فإني مصر على هذا الخيار بعد قراءة الكتاب وبعد طول تأمل وتفكر في الموضوع. بل ويمكن القول إنني توصلت إلى هذه النتيجة التي فاجأتني أنا شخصيا وما كنت أتوقعها بعد سنوات عديدة من الحيرة وتقليب الأمور على كافة وجوهها.. لقد لزمتني عزلات طويلة وقراءات عديدة حول هذا الصراع الجهنمي قبل أن أحزم أمري وأتخذ موقفي. نعم إنني أعتقد جازما بأن استمرارية هذا الصراع أصبحت عبثية ولا معنى لها. أصبحت تعرقل نهضتنا وانطلاقتنا. أصبحت عبئا لا طائل من ورائه. أصبحت ضياع وقت وجهد ومال وإزهاقا للأرواح بشكل مجاني. فلتكن معركة غزة إذن آخر الحروب. ولنطو الصفحة نهائيا وليبتدئ عهد آخر جديد في المنطقة. ولنكرس كل هذه الطاقات والإمكانات المهدورة من أجل البناء والعمران لا من أجل الدمار والخراب. لنكرسها لبناء المدارس والجامعات والمستشفيات وروضات الأطفال.. وليبتدئ المشروع الحضاري العربي حقا وحقيقة. لا نستطيع تأجيله إلى ما لا نهاية بحجة تحرير فلسطين. لنحرر العقل العربي أولا وبعدئذ تتحرر فلسطين من تلقاء ذاتها.
أعترف بأن قراءة الكتاب الأخير للمفكر الفلسطيني ساري نسيبة كانت بمثابة القشة التي كسرت ظهر البعير أو القطرة التي جعلت الكأس يفيض عندي. قراءته هي التي دفعتني إلى اتخاذ هذا الموقف الذي قد يسبب لي سوء التفاهم وبعض المتاعب لدى الغوغائيين والديماغوجيين العرب الذين يملأون الآن الفضائيات بزعيقهم وصراخهم. في إحدى صفحاته يقول له الفيلسوف واللاهوتي الإسرائيلي دافيد هارمان أرجوك أن تتذكر ما يلي: إسرائيل لم يصنعها خريجو الجامعات الكبرى من أمثال برنستون وييل، وإنما أناس مجروحون مدمرون من الداخل، أناس خارجون من أعماق الغيتوهات في أوروبا الشرقية. ولا يمكن لأي طبيب نفساني يهودي أن يشفي روح الشعب اليهودي. وحده الطبيب الفلسطيني يمكن أن يشفيها. أرجوكم ساعدونا على تضميد جراحاتنا النفسية!
هل هناك كلام أبلغ من هذا الكلام؟ نحن نضل الطريق تماما إذ نضع رأسنا في رأس اليهود ونناطحهم بهذا الشكل إلى ما لا نهاية. سوف نكسر رأسنا معهم من دون أي نتيجة. وسوف يدمروننا تدميرا نتيجة امتلاكهم لأحدث أنواع الأسلحة الفتاكة وسيطرتهم على التكنولوجيا. هؤلاء لهم تاريخ خاص جدا ومعذب جدا جدا. إنهم معقدون نفسيا إلى أبعد الحدود. والمعقد نفسيا «العلقة» معه مصيبة! إنه مستعد لأن يدمرك أو يدمر نفسه من دون أي تردد. إنه شخص انتحاري أو مزود بسيكولوجيا انتحارية. آن الأوان لكي ندرك ذلك. نحن العرب ينبغي أن نستوعب اليهود في نهاية المطاف لا أن يستوعبونا هم. نحن الأكثر عددا وشرعية ورسوخا في الأرض بل والأقوى في نهاية المطاف على الرغم من كل شيء. وهم الخائفون الذين يترجوننا أن نقبلهم. فلنجرب طريقة أخرى في إدارة الصراع بدلا من الإصرار على نفس المنهج القديم التعيس إلى ما لا نهاية. نقول ذلك وبخاصة أنه يمكن أن نكسب المعركة معهم بطريقة أخرى ومن دون أن نطلق رصاصة واحدة: أي عن طريق الإنجاب والتزايد الديموغرافي أو السكاني. الشعب الفلسطيني وحده سوف يغمرهم ويفيض عليهم.. وبالتالي فتكفينا حروبا ومناطحات عقيمة. لقد شبعنا منها ومللنا. هؤلاء الذين يرعبوننا بطائراتهم وصواريخهم وأحدث أنواع التكنولوجيا العسكرية هم في الواقع مرعوبون منا ومن تاريخهم ومن البشرية بأسرها. كل وجودهم قائم على الغيتوهات والاضطهاد ومليء بالمجازر المتواصلة على مدار العصور من دون انقطاع تقريبا. هذا هو التحليل النفساني للصراع العربي الإسرائيلي. لم ترحمهم الأمم لا في هذه الجهة ولا في تلك. ودائما كانوا أقلية محتقرة. ولذلك ما عادوا يثقون بأحد. إنهم خائفون حتى من ظلهم ولذلك فإنهم يخيفوننا. إنهم يذبحوننا مخافة أن نذبحهم. باختصار شديد فإنهم بحاجة إلى من يعطيهم الأمان لكي تخف عدوانيتهم ويصبحوا أناسا طبيعيين، عاديين، مسالمين. ولذلك أقول إن سياسة محمود عباس والقيادة الفلسطينية المستنيرة أفضل بألف مرة من عنتريات أصوليي حماس والجهاد وحزب الله ومن لف لفهم. فهذه العنتريات لم تؤد بنا إلا إلى الخراب والدمار. ولكن لا أحد يستمع إلى صوت العقل والمنطق. إذ أقول هذا الكلام لا يعني أني أقلل من تضحيات حزب الله التي أدت إلى تحرير الجنوب بشكل يشبه المعجزة. ولا أقلل من تضحيات حماس والجهاد وبقية المجاهدين والمناضلين. ولكن هناك إجماعا كونيا جبارا على وجود إسرائيل في المنطقة. وينبغي أن نأخذ ذلك بعين الاعتبار وإلا غرّرنا بشعوبنا وعرضناها للتهلكة مجانا. وهذا خطأ كبير لا ينبغي أن يرتكبه أي مسؤول سياسي عنده ذرة إحساس بالمسؤولية. ألم يقل السيد حسن نصر الله إنه لو عرف بأن إسرائيل سترد بمثل هذه الوحشية وتدمر البنية التحتية للبنان كرد على أسر جنديين فقط لما أسرهما وتحداها؟ ونفس الشيء يمكن أن يقوله عقلاء حماس. وسبب سوء التقدير عائدة إلى أنهم لم يقرأوا كتاب ساري نسيبة ولم يقوموا بالتحليل النفسي للشخصية الإسرائيلية أو اليهودية المعقدة والمصابة بهذيان الغيتو وعقدة الاضطهاد والخوف من الانقراض.
الانتصار على إسرائيل قادم لا محالة وأكاد أقول من تلقاء ذاته. كيف؟ عن طريق الانتصار على الذات أولا والنجاح في بناء المشروع الحضاري العربي والسيطرة على العلم والتكنولوجيا. هذا البحر الشاسع الواسع الممتد من المشرق إلى المغرب سوف يصنع المعجزات عندما يدخل التاريخ ويستنير ويهضم الثورات العلمية والفلسفية واللاهوتية.
وهذا ما يخيف الغرب أصلا وليس فقط إسرائيل. الأصولية لا تخيفهم كثيرا على عكس ما يشاع. لماذا؟ لأن السيوف الخشبية لا تحارب القنابل الذرية ولأن عقلية القرون الوسطى لا يمكن أن تنتصر على عقلية الحداثة أو ما بعد الحداثة. انظروا إلى الصين وماذا تفعل. ألا تعتقدون بأن عندها الرغبة في الانتقام من الغرب الذي أذلها منذ القرن التاسع عشر بعد ما يدعى بحرب المخدرات ضد الانجليز؟ لقد أهانوها في عقر دارها ولكنها لا تغامر بتحديهم الآن. إنها تنتظر حتى تكون قد استوفت بناء مشروعها الاقتصادي والتكنولوجي والحضاري لكي تقف في وجه أميركا، ثم لكي تنتقم من اليابان أيضا. ولكن ليس قبل ذلك. ينبغي أن تعد للأمر عدته. هذا هو المنهج السليم. وهنا تكمن العقلانية السياسية التي لا يفقهها للأسف العقل الأصولي الغيبي الاستلابي الذي دمرنا مرتين على مدار سنتين فقط: المرة الأولى مع حزب الله، والمرة الثانية مع حماس. ما فائدة كل هذه الحروب التي لا تقدم ولا تؤخر؟ بلى تؤخر كثيرا للأسف الشديد وتدمر بنيتنا التحتية وتعود بنا عشرات السنين إلى الوراء وتسبب لعائلاتنا ونسائنا وأطفالنا كل هذه الفواجع والآلام المبرحة. وكل ذلك لكي نعود إلى نقطة الصفر من جديد، أو إلى ما قبل نقطة الصفر. من يستمع إلى ساري نسيبة تلميذ محسن مهدي في هارفارد والمستضيء بأنوار الفارابي وابن سينا والنزعة العربية الإسلامية في أعلى ذراها تألقا؟ لا أحد. كلهم يركضون وراء الأصوليين الذين تجرأ بعضهم على رفع راياتهم وشعاراتهم البائسة حتى هنا في قلب باريس عاصمة النور والحضارة والتنوير! هذا شيء مرفوض قطعا. لذلك أقول في نهاية هذا المقال: المستقبل ليس لمتطرفي حماس والظواهري وبن لادن، ولا لليمين الإسرائيلي المتطرف الذي فقد صوابه، وإنما هو لذوي النوايا الطيبة والعقول المستنيرة من كلتا الجهتين الفلسطينية والإسرائيلية، العربية واليهودية. وهم موجودون بكثرة ولكنهم خائفون وصامتون.
رابط النص، جريدة الشرق الاوسط:
https://archive.aawsat.com/details.asp?section=19&issueno=11020&article=504840&feature=1#.XmQWkEpS-Ul