المقالات

بين الحل والتسوية

جريدة الفجر-2/12/1983

ليس من المجدي أن يختلف اثنان منا حول المدة المتبقية لتنفيذ البنود التي ورد ذكرها في الميثاق الوطني الفلسطيني، والمتعلقة بتحرير فلسطين عن طريق الكفاح المسلح.

بل وقد يكون ليس مفيداً أيضاً أن نختلف فيما بيننا حول الامكانات المتوفرة حالياً لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على جزء من تراب فلسطين التي يعتقد بعضنا بإمكانية فرضها على الشرق الأوسط فرضاً في خلال تغيير جذري في موازين القوى لصالح الدول العربية ومنظمة التحرير، بحيث تنشأ تلك الدولة على التراب الفلسطيني بدون قيد أو شرط وبدون مفاوضات مباشرة مع إسرائيل واعتراف بها.

ولكنه قد يفيدنا جميعاً أن نميز بين حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية وبين تسوية لها. أي بين ما قد ترتأيه خيراً وهدفاً وطنياً وبين ما قد يكون أقل الشرور سوءاً لقضيتنا وشعبنا في هذه الحقبة التاريخية، وفي سياق تمييزنا بين الحل والتسوية، فقد يكون مجدياً أيضاً أن نميز بين الهيئة التي تمتلك شرعية الحل والهيئة التي قد يجب علينا أن نلقي على عاتقها عبء التسوية.

إن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده لأنها ذلك الممثل لقضيته المعلن عنها في الميثاق الوطني، ولأنها تمتلك أو تسعى لأن تمتلك وسيلة تحقيق أهداف تلك القضية كثورة مسلحة. لكن المنظمة هي أولاً وقبل كل شيء منظمة تحرير وليست منظمة تشريع احتلال. فلا الميثاق الوطني يخولها بالاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني ولا قرارات المجالس الوطنية المتتابعة تخولها بذلك مباشرة، إن منظمة التحرير لا تمتلك الشرعية حتى الآن لأن تسعى لإقامة الدولة الفلسطينية عبر مفاوضات مع إسرائيل ومقابل اعتراف بها.

فالمنظمة تمتلك شرعية العمل على حل للقضية الفلسطينية من جذورها ولو كان ذلك على مراحل، لكنها لا تمتلك شرعية العمل على تسوية للقضية الفلسطينية تتضمن اعترافاً بالكيان الصهيوني وتنازلاً عن الحق الفلسطيني. ولربما أن يكون الخلط في هذه الأدوار – ميل المنظمة نحو التسوية بدلاً من الحل – هو الذي أشعل جمرات اللهب داخل المنظمة حتى منذ المؤتمر الثالث عشر للمجلس الوطني حين بدأت بذور التململ في كوادر العاصفة في تلك الفترة في الظهور وبدأت حملة الانتقاد ضد ذلك التيار داخل فتح وداخل المجلس الذي كان يبدي استعداداً للعمل السياسي، ولم ينطفئ لهيب تلك الجمرات عبر السنين، بل تطور التآكل داخل الحركة بتطور الجانب السياسي فيها، حتى أدى إلى ما آل إليه في بداوي وطرابلس وغيرها. هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن من المثير للانتباه أن إسرائيل كانت على ما يبدو مستعدة إثر حرب 67 للانسحاب من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها ضمن اتفاق مع الأردن، لكن هذا الاستعداد أخذ بالتضاؤل مع مرور الوقت، وانعكس ذلك في تصعيد تدريجي في الشروط التي كانت تضعها إسرائيل، مقابل الانسحاب، حيث بدأت إسرائيل في السعي لانتزاع اعتراف رسمي بها من الأردن كطرف عربي بعد أن كانت مستعدة في باديء الأمر لمجرد إنهاء حالة الحرب – قرار مجلس الأمن 242 عن القضية الفلسطينية برمتها في مؤتمر الرباط، حيث أن الاعتراف الرسمي المحتمل من الطرف العربي أصبح اعترافاً من صاحب الشأن نفسه، أي من الشعب الفلسطيني عبر ممثله الشرعي والوحيد.

ومع مرور الوقت، فبالقدر الذي حاولت ونجحت به المنظمة لأن تفرض نفسها ممثلاً وحيداً للشعب الفلسطيني، فبذلك القدر تعاظمت الامكانية لدى إسرائيل وحسب اعتقادها في أن تنتزع اعترافاً فلسطينياً شرعياً بكيانها الصهيوني مقابل انسحابها عن الضفة وغزة، لكن تعاظم الاستعداد لدى الجانب الفلسطيني للتوصل لتسوية سياسية، الأمر الذي بلغ ذروته رسمياً بتبني المجلس الوطني الأخير لمشروع بريجنيف للسلام، أدى في المقابل لتشنج إسرائيلي متزايد جعلها تسعى وحسب قول بعض المفكرين الإسرائيليين أنفسهم في حرب لبنان التي كان بالامكان أولاً انتزاع اعتراف شرعي منها، وذلك خوفاً من أن تضطر إسرائيل للتنازل لها اقليمياً عبر تسوية سياسية.

وهكذا فبينما كان ميل للمنظمة نحو التسوية يمهد من جهة لإضفاء شرعية فلسطينية على الكيان الصهيوني ومن جهة أخرى لتآكل المنظمة من الداخل، بأنه كان يؤدي على الصعيد الإسرائيلي لتشنج متزايد عكس نفسه في ترسيخ جذور المستوطنات والاستيلاء على مصادر البلاد الطبيعية ورفض التعامل مع السكان العرب كجزء من شعب فلسطيني متميز وطنياً يسعى للاستقلال الوطني ولاستعادة السيادة على أرضه من أجل ممارسة حقوقه الطبيعية سياسياً ومدنياً.

وماذا بعد ذلك؟

مما تقدم فإنه يبدو من الخطأ أن تقحم المنظمة نفسها في تسوية سياسية مع إسرائيل بل عليها أن تصلّب من موقفها حفاظاً على نفسها ممثلاً شرعياً وحيداً وموحداً للشعب الفلسطيني وقضيته التي لا تزال بحاجة إلى حل جذري، وعليه فإن عليها أن تعمل بالوفاق مع حركات التحرر العربية لإعادة بناء نفسها من أسسها وذلك حتى تصبح قادرة من الناحية الواقعية على تحقيق أهدافها، وهي إن فعلت ذلك فسوف تنجح في تجنب الأمرين المشار إليهما سابقاً، أي الانهيار الداخلي عبر التآكل الأيديولوجي والاقتتال المستمر من جهة، وإضفاء الشرعية الفلسطينية على الكيان الصهيوني من جهة أخرى.

إلاّ أن المعطيات السياسية تدل على أنه من الخطأ أيضاً أن تتقوقع المنظمة على نفسها في الساحة العربية تاركة وراءها مصير الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال منذ العام 67 بل تقع على عاتقها المسؤولية بأن تشارك فكرياً وعقلياً لتقرير وتفعيل الاتجاه المستقبلي لهذا القطاع من الشعب الفلسطيني، إن الخبرات بالنسبة لنا في هذه اللحظة التاريخية حاسمة ودقيقة. فهل من الأفضل أن تتعامل مع المعطيات السياسية بالتوجه نحو الاستقلال من إسرائيل عبر المطالبة باتفاق أردني – فلسطيني يستعمل آلية السياسة الأمريكية لتحقيق الكونفدرالية ضمن التصور الذي وضع في قمة فاس؟ أم هل على الحركة الوطنية أن نغير نوعياً من منظارها السياسي وتبدأ بالنضال من أجل الانضمام لإسرائيل عبر كامب ديفيد والإدارة المدنية كمراحل؟ أم هل تترك الأمور على ما هي عليه أملاً بأن نستيقظ فجأة فنجد أننا تخلصنا من هذا الكابوس بقدرة قادر؟

هذه ثلاثة اتجاهات علينا وعلى قادتنا تدارسها بكل موضوعية وجرأة، آخذين بعين الاعتبار أن قضية هذا القطاع الفلسطيني هي جزء من القضية الفلسطينية ولا بأس أن افتتح باب النقاش بالاشارة إلى ميزات وامكانات الاتجاه الأول.

•  إن إعادة تعريب المناطق المحتلة عام 67 سوف يسمح للمنظمة وللهوية الفلسطينية أن تجد أرضية فلسطينية يمكنها الارتكاز من أجل إعادة بناء نفسها، الأمر الذي هي في أمسّ الحاجة إليه.

•  قد يمكننا اشتراط أن نستطيع استعمال مثل ذلك الوضع من أجل تصحيح بعض المآسي الإنسانية التي تعرض ويتعرض لها شعبنا الفلسطيني مثلاً كإعادة توطين اللاجئين في المخيمات اللبنانية على أرض فلسطينية.

•  قد يمكننا العمل الجدي على تثبيت وجودنا في هذه المناطق عن طريق إرساء البنية التحتية الفلسطينية في هذه المناطق نتيجة وجودها تحت الاحتلال، ومستفيدين من جهة أخرى بشكل مباشر من مصادر التمويل الممكنة من أجل تأسيس الصناعات المتطورة وتوطين واستخدام اليد الفلسطينية الفنية والعاملة. أما بالنسبة لآلية تحقيق هذه الأهداف، فإنه يمكن للمنظمة أن تعمل على صعيدين: