المقالات

وقفة أخرى مع الحوار الفلسطينيي الإسرائيلي

الميثاق - 28/4/1984

 

أثير النقاش في جريدة الميثاق (تاريخ 21/3 وثم 21/4) وفي بعض الصحف الأخرى حول موضوع وأشخاص الحوار الإسرائيلي – الفلسطيني. وإنني شخصياً أرحب بمثل هذه النقاشات ويزداد ترحيبي بها واستفادتي منها بشكل طردي مع ازدياد موضوعيتها، بما تتضمن من انتقادات، إذ أن ما نتوخاه هو الحق، وكل منا لديه اجتهاداته ومعتقداته، ويسعى دوماً لوضعها موضع التجربة والمحك، لينبذ منها ما يثبت طالحه، ويبقى منها ما يثبت صالحه

.

وإنني لأرجو أن تكون مساهمتي هذه المتواضعة في موضوع الحوار كفيلة بتوضيح بعض الأمور، وبعض الأسس التي أنطلق منها أنا شخصياً، علماً بأن لكل من المحاورين فلسفته ورأيه، ولا يجمع بيننا نظيم، أو ضوء أخضر، وإنما نستنير، كل منا، وكغيرنا ممن يخالفوننا في الرأي بضوء الحق والعقل، ضمن مقدورنا الإنساني وإمكاناتنا.

إلا أنني وقبل أن أحاول طرح أفكاري بخصوص موضوع الحوار فإنني أود الإشارة بأن ما يقال عني حول امتطاء الشرعية من أجل التشكيك بمصداقية صائب عريقات قبل عامين، تمهيداً لإجراء الحوار بدلاً منه اليوم، فإن في هذا ما فيه من السذاجة وصغر العقل ما يجعله مردوداً على نفسه بدون إجابة، اللهم إلاّ التنويه بأنني عندما انتقدت الدكتور صائب (حول ما سمي حينئذ بالحوار الأكاديمي) ووصلني منه يومئذ وعبر صديق لنا مشترك بأن في المقال المذكور ما يمس بمصداقيته الوطنية، وما ينتقص من شرعية أفكاره، وما يعريه أمام زملائة وقرائه وطلابه، فإنني بادرت وبصدر رحب وبشكل فوري بالإعلان على صفحة جريدة القدس الأولى في اليوم الذي تلا نشر مقالي، بأنني أحترم الدكتور صائب لرأيه، ولا أشكك فيه شخصياً، وإذ كنت، وما زلت، أميّز بين المقولة وصاحبها، وأسمح لنفسي بالتعرض لها ما وسع قلمي على ذلك، بدون التعرض لشخص صاحبها، ويا ليتنا نرسخ هذا النهج في التعامل ما بيننا، واضعين حداً لغرائزنا التي تدفع بنا بالتشكيك والشك فيما حولنا قبل التدقيق الموضوعي والتمحيصي.

أما وأن وضحت هذا الأمر، فإنني أطرح أفكاري متسلسلة كالآتي:

أولاً: إن نقدي لطرح الدكتور صائب عريقات قبل عامين حول الحوار الأكاديمي كان، وما زال، مستنداً لأمرين لم أوفق للأسف، وكما يبدو، في توضيحهما كما يجب، وهما تجريد الحوار الأكاديمي عن مضمونه السياسي أولاً، وإعطاء دور حواري سياسي مميز لشريحة الأكاديميين ثانياً، والأمر الثاني مرتبط بالأول، كما سوف أبين.

فإن كل حوار إسرائيلي، فلسطيني، على حد رأيي، هو حوار سياسي، مهما تعددت أو تنوعت مظلته أو تسميته، أكانت مظلة أكاديمية، أو تجارية، أو إلى مسيرات مشتركة ومعارض مشتركة، أو إلى دراسات مشتركة وأبحاث مشتركة، أكانت عن وضع البلديات أو الحمضيات، أو المجاري، أو القضية، فإنه يدعو، برأيي، لحوار سياسي، ولإقامة علاقة سياسية ثنائية.

فإن صدقت هذه الفرضية، وقبلنا بتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية، واتضح لنا أن الحوار الأكاديمي هو حوار سياسي، تتضح الخطورة التي حاولت تبيينها في ذلك المقال، أي خطورة أن تبدأ شريحة الأكاديميين في أخذ دور سياسي متميز في العلاقة السياسية الإسرائيلية الفلسطينية، وقد يذكر البعض في هذا المجال بعض الدعوات التي وجهت في الصحف آنذاك لإنشاء رابطة للأكاديميين، بالرغم من وجود نقابات وطنية في مؤسساتنا الجامعية كانت تخوض حينئذ وفي بعض المواقع معركة بناء الجامعات، كما ويذكر الجميع أيضاً محاولات سلطات الاحتلال في حينه قلب الحركة الوطنية الفلسطينية عبر ممارسات الإدارة المدنية تمهيداً كما اتضح، لضرب الذراع العسكري لهذه الحركة في لبنان، هذا ناهيك عن الخطورة الناجمة عن تطبيع العلاقات بين الشعبين تحت ستار أن العلاقات أو الحوارات المدعو إليها هي مجرد فنية، أو مجرد أكاديمية، أو مجرد إعلامية، وليست سياسية.

إنني لست ضد مشاركة الأكاديميين في معادلة الصراع القائمة بيننا وبين الاحتلال وعلى جميع الأصعدة بما فيها صعيد الحوار، لكنني كنت، وما زلت، ضد اعتبار أن هناك مكانة سياسية مميزة للأكاديمي لمجرد كونه أكاديمياً. بل على العكس من ذلك، فإن "دراستي" في جامعات الوطن المحتل عبر السنوات الست الأخيرة علمتني وأكدت لي أن الوعي السياسي عند طلبتنا يفوق بكثير بشكل عام "وللأسف" الوعي السياسي عند أساتذة جامعاتنا. إذن فإنني وبالرغم من ثقتي بأن الدكتور صائب لم يدع عن قصد لإيجاد بديل للحركة الوطنية المتمثلة في المؤسسات المختلفة في الأرض المحتلة بما فيها نقابات جامعاتنا، كما وبالرغم من ثقتي أيضاً بأنه لم يدع لتطبيع العلاقات بين الشعبين في الوقت الذي كان فيه هذا تماماً هدف سياسة الإدارة المدنية، إلاّ أن طرحه، في رأيي، استلزم مثل تلك الدعوة في حينه، وحذرت وما زلت من مغبة الاستعلاء الأكاديمي ضمن حلبة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

لكن قولي بأن دعوته استلزمت ذلك لا يعني إطلاقاً أنني أشكك في نواياه ومصداقيته. هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإنه حتى لو كان أحدهم ضد الحوار السياسي في وقت سابق، وأصبح مع الحوار في وقت لاحق، فإن من السذاجة الاعتقاد بأنه كان مخطئاً ثم أصاب، أو أنه كان مصيباً ثم أخطاً، بل فإن المتغيرات والمستجدات وخاصة في العالم السياسي، تستلزم وجود ديناميكية في الوعي، بحيث يقاس صدق المقولة نسبة للوضع السياسي القائم في حينه، وليس بشكل مطلق، وبحيث تؤخذ بعين الاعتبار التطورات الشكلية والجوهرية، التي طرأت وتطرأ مادياً على الساحة. وشتان الفرق برأيي، في الفكر الفلسطيني المشروع قبل الدورة السادسة عشرة للمجلس الوطني، والفكر المشروع بعد تلك الدورة، إذ أن تلك الدورة قد أقرت، برأيي، ولو بشكل غير مباشر، بفكرة التقسيم، وبإقامة الدولة المستقلة ضمن أطر قمة فاس ومشروع بريجنيف، بجانب إسرائيل، الأمر الذي استلزم التعامل بشكل أو بآخر مع المؤسسة الصهيونية فيها ضمن روابط ومناهج وثوابت يحددها الهدف الذي أقره مجلسنا.

ثانياً: أتطرق ثانياً لواقع الحوار السياسي في ظل الوضع الذي تعيشه، وأؤكد هنا بأنني أتفق بمعنى ما من معاني الاتفاق، مع ما جاء في ما كتبه ابن القرية في "الميثاق" بأن تعدد الحوارات لا يعني تعدد المناهج، بل أن ثمة قاسماً مشتركاً في جميعها، وهذا هو ما قلته تماماً في تأبين "الشهيد عصام السرطاوي" واقتبسه ابن القرية في مقاله.

إذ أنني أعتقد بأن ثمة ارتباطاً موضوعياً وإن لم يكن ذاتياً بين الحوارات التي تجري وجرت خاصة بعد بيروت، وبعد الدورة السادسة عشرة والتي تجري تحت المظلة الواسعة للحركة الوطنية الفلسطينية، أي المظلة التي تتجسد معالمها بثابتين أساسيين، وهما كون المنظمة ممثلنا الشرعي والوحيد، وكون المطلب الوطني هو إقامة دولتنا المستقلة على ترابنا الوطني. وباعتقادي فإن في هذه الثوابت والمعالم ما يميز بين حوار وآخر، وبين محاور وآخر.

لكنه من المفيد الإشارة في هذا الموضع إلى تمييز أساسي بين تقييمي للوضع الراهن، وبين تقييم ابن القرية وآخرين له، والذي ينتج عنه وبالضرورة، اختلاف في التقييم حول جدوى الحوار في هذه الحقبة، فهم يرون بأن التوازن العسكري هو بصالح إسرائيل وأن المعطيات المادية والعوامل المؤثرة موضوعية كانت أم ذاتية، هي بجانب إسرائيل، وعليه فإن من المستحيل جني أية مكاسب وطنية من خلال الحوار في ظل الوضع الراهن.

وقد تكون التقديرات هذه محقة، إلاّ أنها ليست بديهياً كذلك وتقديراتي للوضع تختلف، من حيث أنني أميز بين المناظير المطلقة والنسبية في تقدير الأوضاع وأرى أن حرب لبنان، مع أنها كانت ضربة قاسية لمنظمة التحرير، إلا أنها وفي الوقت ذاته كانت ضربة قاسية لإسرائيل وكانت بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير في المد الإسرائيلي. وعلى عدة مستويات، منها اجتماعية ومنها سياسية، داخلية ودولية، ومنها عسكرية ومنها اقتصادية، ذلك في الوقت الذي فيه أرى أن الموقف العربي والفلسطيني وبالرغم من شتاته وانقساماته، هو موقف صلب على الأقل فيما يتعلق بمنظاره لإسرائيل وبرؤيته للأسس العادلة لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي.

أما على الصعيد الإسرائيلي "المجتمعي"، فإن الذي يراقب الوضع يلحظ أن حرب لبنان قد حددت وبشكل واضح لا شك فيه الطاقة المحدودة للبنية الاجتماعية الإسرائيلية على تحمل التوسع الجغرافي العدواني ضد الدول العربية المجاورة من جهة، وعلى تحملها لمتابعة الصراع مع الثورة الفلسطينية وضد المطاليب الفلسطينية من جهة أخرى. وإنني لآخذ مأخذ الجد المظاهر المختلفة التي طفت على سطح المجتمع الإسرائيلي نتيجة لتلك الحرب، بما فيها مطالبة قطاعات واسعة من الشعب الإسرائيلي باستقالة وزير الدفاع الإسرائيلي وبما فيها رفض أداء الخدمة العسكرية في لبنان.

وبما فيها أيضاً المظاهرة الضخمة التي اندفقت في شوارع تل أبيب، وبما فيها رسائل الأمهات التي نشرت في الصحف الإسرائيلية والتي كتبتها نسوة يعشن في قلب المؤسسة الإسرائيلية، وأعني الكيبوتزات، وغيرها من الأحداث التي شهدناها جميعاً. لقد اتضح من هذه الأحداث وللإسرائيليين أنفسهم بأن تماسك المجتمع الإسرائيلي مشروط في الوقت الراهن في اتباع سياسة متوازنة تجاه الدول العربية، والوعي لهذا الأمر يشكّل في ذاته خطاً أحمر وقيداً للمخططين الإسرائيليين، لم يكن موجوداً في السابق.

أما سياسياً، فإننا نلحظ أمرين مترابطين، إذ أن كارثة لبنان قد فجرت الألغام داخل التكتلات والتجمعات والأحزاب السياسية الإسرائيلية، منبئة بتفتت الوحدة القائمة داخل الليكود، وحتى داخل الأحزاب المكونة لليكود، ومنبئة ذلك وفي الوقت نفسه على فشل السياسة المتبعة في التعامل مع قضية الشعب الفلسطيني. إننا وإن اعتبرنا أن الحرب ليست هدفاً بحد ذاته، وإنما هي وسيلة لتحقيق هدف سياسي، واعتبرنا أيضاً أن الهدف السياسي في حرب إن كان القضاء على الحركة الوطنية الفلسطينية، وتركيع الإرادة الجماهيرية في الأرض المحتلة، تمهيداً لتطبيق مخططات كامب دافيد والحكم الذاتي، لرأينا ومن الإٍسرائيليين أنفسهم ومن مقالاتهم وخطبهم في الكنيست وخارجها أن إسرائيل فشلت فشلاً ذريعاً في هذا المجال، فجماهير الأرض المحتلة لا زالت متمسكة بمنظمة التحرير ومتمسكة برفضها لجميع الحلول الاستسلامية، ومتمسكة بمطاليبها المشروعة في إقامة الدولة المستقلة على ترابنا الوطني.

أما على الصعيد الخارجي، فإن حرب لبنان قد أفقدت إسرائيل شيئاً من مرونتها في التحرك السياسي في الحلبة الدولية وذلك مقابل التحرك السياسي والدبلوماسي العربي والفلسطيني لاجتذاب التأييد للمطاليب العادلة للشعب الفلسطيني، وقد جاء ذلك جزئياً نتيجة للتغطية الإعلامية الشاملة التي أظهرت المقاومة الفلسطينية الباسلة في مظهرها العادل والصحيح، متحدية بفدائها لنفسها، وبابتساماتها وأطفالها وأهازيجها ودبكاتها في الخنادق الأمامية شراسة القنابل العنقودية وبشاعة الترسانة العسكرية الإسرائيلية. وفي هذا الصدد فإننا نلحظ بعض المواقف المتقدمة التي بدأت بالأخص الدول الأوروبية باتخاذها، وأذكر في هذا الصدد وعلى وجه التحديد القرار الذي اتخذه البرلمان السويدي مؤخراً بشأن الحق الفلسطيني بإقامة الدولة المستقلة وبشأن شرعية ووحدانية تمثيل المنظمة لشعبنا. كما وأذكر أيضاً بعض التصريحات، بما فيها تصريحات وزير الخارجية البريطاني، وأيضاً تصريحات البابا في الفاتيكان .. أن جميع هذه المواقف والتصريحات تحد من المرونة الإسرائيلية في التحرك على حلبة الدبلوماسية الدولية، وهي مستجدات تصب في صالح الجانب الفلسطيني في المعادلة الإسرائيلية الفلسطينية.

أما على الصعيد الاقتصادي، فإننا جميعاً نتلمس الآثار السلبية للحرب التي بدأت تنعكس في الاقتصاد الإسرائيلي كما ونلحظ الارتباك الواضح في السياسات الاقتصادية التي أوجبت حدوث تغييرات متلاحقة في الوزارة، وأشير في هذا المجال إلى دراسة قيمة نشرتها مجلة الكاتب في عددها 48 مؤخراً بقلم غسان الخطيب الذي يعالج فيه موضوع الاقتصاد الإسرائيلي المتردي.

وأما عسكرياً، فإن المتتبع للأخبار يلحظ بعض التعليقات بأقلام معلقين عسكريين إسرائيليين عملوا في الاستخبارات العسكرية مبينين فيها بأن الحرب في لبنان قد أوضحت التقهقر الذي طرأ على قدرة الترسانة العسكرية الإسرائيلية في مواجهة المقاتل العربي الفلسطيني. وهذا أيضاً يشكل خطاً أحمر آخر لم يكن جزءاً من الوعي الإسرائيلي أي الظرف الذاتي الإسرائيلي سابقاً.

وبشكل إجمالي فبالإمكان القول أن مجمل العوامل المذكورة على الصعيدين الموضوعي والذاتي إسرائيلياً هي بمثابة قيود وخطوط آخذة في وضع الضغوطات على الحكومة الإسرائيلية داعية لها للتوصل إلى تسوية مقبولة لدى الطرف العربي، وأما إشارتي سابقاً للشعرة التي قصمت ظهر البعير، فما هي إلاّ لذلك العبء الموجود أصلاً على الدولة الإسرائيلية وهو اللغم السكاني الذي يدفع بأقطاب حزب العمل للتنظير ومن منطلق صهيوني بحت بضرورة الانسحاب عن الأراضي العربية المحتلة، قبل أن يفوت الأوان وتفقد إسرائيل يهوديتها أو ديموقراطيتها.

إن الذي يتابع تحركات أقطاب حزب العمل إعلامياً وعملياً بالآونة الأخيرة تجاه إيجاد تسوية مع الأردن يدرك جدية هذه التحركات إنطلاقاً من التقدير آنف الذكر للواقع الإسرائيلي.

أما من الجانب الآخر، أي على الصعيد العربي، والفلسطيني فإن المقدرة الفعلية والحقيقية العسكرية لمنظمة التحرير لم تمس بشيء عملياً، كما أثبت ذلك أكثر من حدث منذ لبنان، علماً بأن الكثيرين داخل الثورة كانوا قد اختلفوا أصلاً فيما بينهم حول جدوى تحويل الثورة العسكرية، أو العسكرية الثورية، إلى بنية تقليدية على أرض لبنان أو غيرها، أما سوريا، فبالرغم من كل ما حدث أثناء حصار بيروت، فإن ارتباطها إستراتيجياً بالاتحاد السوفياتي يعتبر سداً منيعاً أمام إسرائيل وأحلامها بتحطيم البنية العسكرية العربية. وأما الأردن فإنه برأيي لا يزال متمسكاً بضرورة التنسيق مع منظمة التحرير، ويريد التحرك كما يبدو فقط من خلال معادلة فلسطينية عربية تضمن لها دعماً دولياً لا تكون حكراً لإحدى القوتين العظميين وأما مصر، فإن تحركها نحو التمسك أو إعادة التمسك بالمطاليب الوطنية الفلسطينية قد بات واضحاً للعيان.

إذن فإن مواقف الدول العربية والقطاعات الفلسطينية هي مواقف صلبة ومتلاحقة نسبياً بجعل التعامل معها من قبل إسرائيل والولايات المتحدة من أجل التوصل إلى تسوية مرهوناً بتحقيق مطاليب دنيا تتوافق مع تطلعات الشعب الفلسطيني في التحرر والاستقلال.

فالتوازن، برأيي، ليس كلياً بصالح الطرف الإسرائيلي، كما أنه وبالطبع ليس كلياً بصالح الطرف العربي، إلاّ أن من شأنه أن يخلق فجوة لا شك بأنها سوف تتزايد بتزايد تصليب وتوحيد الموقف العربي والفلسطيني. هذه الفجوة والامكانية التي يمكننا منها، حتى ولو كانت ضئيلة ومتغيرة بتغير الأوضاع، محاولة التوصل إلى تسوية ليست حدودها هي آفاق أحلام يقظتنا، إنما ما ترسمه المعطيات الفلسطينية (قرارات الدورة السادسة عشرة) والعربية (قمة فاس) والدولية (مبادرة بريجنيف وقرارات الأمم المتحدة).

وواجبنا، على ما أعتقد في هذه المرحلة، هو السعي على كافة الأصعدة بما فيها الصعيد السياسي، من أجل التأثير على بوادر التوجه الإسرائيلي والاستعداد الدولي للتوصل إلى تسوية بشكل يتناسب ومطاليبنا المشروعة. بحيث يبقى الرقم الفلسطيني أساسياً وما يعنيه هذا القول هو تثبيت الوحدة الوطنية من جهة، وتصليب الموقف العربي من جهة، وتوجيه المبادرات السياسية في الأقنية الصحيحة والشرعية، ليس ظناً بأن ثمة تسوية آتية لا محالة، بل تأهباً واستعداداً لمثل هذا الاحتمال، من أجل التأثير عليه في حالة تجسده في عالم الواقع.

ثالثاً: فإن قبلنا بأن ثمة فائدة حتى ولو كانت نسبتها ضئيلة ومحدودة من الحوار كجزء من كل متكامل من أجل التأثير سياسياً في التسوية المحتملة، وحتى ولو كان احتمالها أيضاً ضئيلاً، ونظرنا للعلاقة الشاملة في المعادلة الإسرائيلية الفلسطينية والتي تحتوي على نقائض تستكمل بعضها بعضاً فمن حوار البندقية والتحقيق مع المعتقل إلى الحوار في الطرف الآخر مع الفئات اليهودية المعادية للصهيونية فكراً وممارسة، وميزنا الألوان والأشكال فيما بين طرفي النقيض في هذه المعادلة الشاملة، وحددنا لكل شكل خصائصه، ولكل نوع من الحوار فوائده وأهدافه فبإمكاننا حينئذ تقييم كل حدث حواري على حدة، ولكن كجزء من كل متكامل، فهنالك اللقاءات الإعلامية مع الوسائل الإعلامية الإسرائيلية، وتتنوع بتنوع وسائل الإعلام، وأشكال اللقاءات، وهنالك من اللقاءات ما يتعلق بالوضع العسكري، كالتوصل لهدنة بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني قبل غزوة لبنان، وهنالك المفاوضات حول الأسرى، وحول الإخلاء، وهناك اللقاءات الاختبارية للتحري عن المستجدات والتغيرات التي طرأت في الطرف الآخر، ومنها ما هو تضامني كالاستفادة من لجنة التضامن مع بيرزيت لرفع الحصار عنها، ومنها ما هو نفعي كالاستفادة من فئات معينة في جهاز القضاء الإسرائيلي أو الأكاديمي للدفاع في قضايا حيوية مختلفة ... إلخ.

فتختلف إذن أطر الحوار باختلاف أهدافه في موقعه الخاص، وإن اتفقت الأهداف عامة قياساً للمعادلة الشاملة، وهنالك بالتأكيد اختلاف حول ثوابت الحوار وأطره المقبولة وطنياً، وخاصة بخصوص ذلك الجزء منه الذي يتعلق بممارسات شعبنا في ظل الاحتلال، فهناك من يقبل بالحوار فقط مع نطوري كارتا، وهي المعادية لإسرائيل فكراً وممارسة، وهنالك من يقبل بالحوار أيضاً مع شتات "ماتسبن"، وهنالك أيضاً من يقبل بالحوار مع تجمعات مثل مجلس السلام الإسرائيلي الفلسطيني، والبديل ولجنة التضامن مع بيرزيت، ونساء ضد الاحتلال، وكلها حركات إسرائيلية فكراً وممارسة إلاّ أنها "تقدمية"، بالمعنى المحدد، أنها وبالرغم من صهيونيتها فهي تقر وبالوقت ذاته بمطاليب الحركة الوطنية الفلسطينية، ثم هنالك من يقبل بالحوار أيضاً مع حركة القوة والسلامة، وهي حركة إسرائيلية دينية، لكنها تطرح نفسها بديلاً دينياً لغوش إيمونيم، وتقر بالوقت ذاته بمطاليب الحركة الوطنية الفلسطينية في إقامة الدولة المستقلة بقيادة منظمة التحرير، ثم تأتي للتجمعات المستغيثة بظل "حركة السلام الآن"، ومنها الأمهات ضد الحرب، وهنالك حد "الصهاينة الليبراليين" الذين يطالبون بإنهاء الاحتلال في الضفة والقطاع، ثم تأتي أيضاً للمابام، وهي حركة صهيونية مؤسساتية، لكنها تقر بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وتأتي أخيراً "للعمل" وفيه نلحظ عدة ألوان، ابتداء بالجانب اليساري منه والمتمثل بيوسي سريد، ومروراً بإعطائه المنتمين لمركز السلام في تل أبيب، وانتهاء بأقطاب الحزب الرسميين، ويشتركون جميعاً رسمياً في موقفهم القائل بضرورة إيجاد تسوية على الطرف العربي تقوم على أساس التنازل الاقليمي مقابل السلام، ويختلفون فيما بينهم على الحيثيات السياسية والاقليمية المتعلقة بموقفهم هذا الرسمي.

فالطرف الإسرائيلي إذن يحتوي على مجموعات لا خلاف معها أصلاً ومجموعات متباينة في قرب موقفها أو بعده من الموقف الفلسطيني ومجموعات لا توجد معها أسس مقارنة أصلاً، فيصبح دور الحوار في ظل الوضع الراهن وعلى الجبهة الداخلية للحركة الوطنية الفلسطينية وأخداً بعين الاعتبار المعادلة الشاملة وكون الحوار جزءاً من كل متكامل بحيث يجب العمل على مجموعة مستويات في نفس الوقت على الساحتين العسكرية والسياسية اقليمياً ودولياً، يصبح هذا الدور يهدف في خصوصيته الوضع والزمن الراهنين إلى فرض الرقم الفلسطيني في المعادلة الإسرائيلية العربية، أكان ذلك لما قد ينعكس منه في حالة التوصل إلى تسوية، أو لما قد يجتذب بعقلانيته موضوعيته تلك القطاعات في شعبنا المستعجلة للتوصل إلى تسوية، حتى تكون ثورتنا الفلسطينية ليست ثورة في النجوم، وإنما قريبة من الحدث مؤثرة فيه.

وبرأيي فإن المهم تثبيت أطر الحوار – أخذاً المجموعات الإسرائيلية المتباينة في عين الاعتبار – هو كيفية طرح الفلسطيني لنفسه، فإن عليه أن يبث وينقل ويشرح ويوضح الأفكار الفلسطينية المشروعة لا غير، مع تحري الدقة، والالتزام بما هو مشروع، وفي جميع الأحوال فيجب أن نتحرى التمييز بين الحوار والتفاوض، وبين أنفسنا كعناصر استكشافية واختبارية لها شيء يسير من التأثير في مواقعها وبممارستها عملها، وبين جهازنا الرسمي التمثيلي، بأطره الشرعية وقنواته الرسمية وقراراته الملزمة، كما وأن علينا عدم الانجرار في منزلقات "التطبيع"، تحت ستارات مضلله، حتى ولو عن نية حسنة، وأن الأكاديمي والصحفي والتاجر والعالم إسرائيلي هو أولاّ فكذلك نحن، إذ نريد أن نعمل سوياً ويداً واحدة، في الداخل والخارج، لكل حسب موقعه، وكل حسب قدرته، وكل حسب نيته لكي ننتج سوياً نتاجاً واحداً ومنطلقنا بالأساس يجب أن يكون فلسطينياً، وثورتنا بالأساس يجب أن تبقى ثورة وطنية، ورقمنا بالأساس يجب أن يظل رقماً فلسطينياً.