صحيفة القدس 20\7\1986
ماذا يعني لنا المصطلح " تحرير فلسطين " ؟ قد نقول أن هذا المصطلح يعبر عن حلم كل فلسطيني. ولكن، ما هو هذا الحلم؟ إن تحرينا الدقة في تحديد هذا الحلم، قد تكشف لنا معالم الطريق نحو تحقيقه.
* قد يقول البعض انه من السخف
بمكان أن نطرح تساؤلات حول مفاهيم بديهية كهذه. ولكن، دعنا نكون صريحين مع أنفسنا: ما هي معالم هذا الحلم الفلسطيني، وما هي شكلية تحقيقه؟ بل هل يوجد هنالك حلم واحد، وتصور واحد، وهدف واحد؟
* أستطيع أن أتكلم عن نفسي شخصياً بل و" اكشف " عن سذاجتي، وأقول، انه في وقت ما في الماضي، كنت أفكر كالآتي: تحرير فلسطين يعني إيقاف عقارب الزمن، ثم إرجاعها إلى الماضي، ذلك الماضي الذي تحددت صورته في ذهني عبر أحاديث الذكريات التي طالما كنت اسمعها تتردد على السنة الكبار بالسن من حولي، وأخصهم أهلي وأقربائي. " تحرير فلسطين " هو انتزاع الحاضر منها ! وهو استعادة الماضي إليها، أو اقل هو إعادتها إلى الماضي !
* كنت أفكر كالآتي: لقد سرق الماضي منا. لقد سرقت أراضينا. لقد سرقت فلسطين وكما " أخذت " منا، فعلينا “ استرجاعها ". كنت أفكر بفلسطين و كأنها قطعة أثاث، أو كأنها قطعة حلوى، وكنت اعتقد بل كنت أؤمن، بإمكانية وضرورة " استعادتها "، أي وضع يدي عليها، ثم أخذها أو نقلها إلى الماضي، حيث ذكريات البرتقال.
*بدأت أفكر بفلسطين وكأنها بساط تراكمت عليه منذ النكبة وعبر الزمن “ الكراكيب " الطفيلية والمبعثرة.... فها هي ناطحات السحاب، وتلك هي المستعمرات، وها هم الغزاة منتشرون في أنحاء الوطن. أصبحت أفكر: "تحرير فلسطين" يعني أن امسك بالبساط من أطرافه، وأن اسحب به إلى مكان ما، حيث يمكنني أن “ انفضه " مزيلاً عنه كافة "الكراكيب" و "الأوساخ" المعلقة به. بعدئذ، أي بعد" تنظيف" البساط، فانه يمكنني أن أنشئ من جديد بيارات البرتقال ومؤسسات "العروبة".
*ثم حين تمخضت مهزلة الـ 67، عما وصف بأنه"فقدان" البقية المتبقية من فلسطين، فلقد وجدت نفسي مشدوداً إلى طرفي نقيض بالتفكير. فالصوت في الإذاعة يقول: " لقد فقدت الأرض" و "لقد فقدت القدس"، وعيناي تقول، الضفة لم تحرك ساكنا"، و"القدس في مكانها"، و "أنا هنا". ثم تنبهت إلى قضية جوهرية: ليس الإنسان الذي فقد الأرض بل هي الأرض التي فقدت الإنسان. هي فلسطين التي فقدت عربها!
*ثم بدأ الكلام ثانية عبر المذياع عن "استعادة الأرض المفقودة" مع الفارق أن "الأرض المفقودة" أصبحت الآن تعني ما فقد في حرب الـ 67". ونسي الناس, أو تناسوا، ما" فقد" في الـ 48 ". وأصبح الحديث منصباً على “إنقاذ ما أمكن من الأرض غير المصادرة" وتحديداً من هذا الباب" أي باب فقدان الأرض واستعادتها. نضجت بعض الطموحات العربية بخصوص التمثيل والتفاوض، والتي ترتكز إلى 242 الذي يتكلم عن الأرض، ويتجاهل الشعب، علماً بان أحدا لن يقف حجر عثرة أمام انسحاب إسرائيل من فتر واحد من الأرض العربية.
*واكتشفت فجأة مصدر البلبلة في التفكير. فالذي يتكلم عن استعادة الأرض واسترجاعها هو نفسه الإنسان الذي فقدته الأرض أو الذي لا يعيش عليها. أما المرء الذي يعيش فيها وعليها فهو يفكر بأمور أخرى، فهو يريد كرامته، وهو يريد حقوقه، وهو يريد تثبيت جذوره. وهو لا يطالب“ باسترجاع" فلسطين، بل هو يطالب، لنفسه بالحرية والاستقلال وتقرير المصير، وهو يطالب بها كفلسطيني. وكإنسان، بل وحتى كمواطن إسرائيلي يسعى لتحقيق حقوقه والمساواة مع اليهودي الإسرائيلي داخل الخط الأخضر.
*أما الفلسطيني الذي اضطر لمغادرة بلاده فأمامه خياران فكريان فأما أن يفكر بفلسطين، وكأنها بساط تراكمت عليه "الكراكيب" وكأنها قطعة حلوى تمت سرقتها، مما قد يقتضي منه أن يفكر "باستعادتها" و " استرجاعها " بتلك الطريقة والشكلية الساذجة التي وصفتها سابقاً أو أن يفكر بالعودة إلى فلسطين، وبالرجوع إليها، فأما أن يفكر كعربي في بغداد أو عمان قد انتزعت منه قطعة الحلوى وهو يريد من الأرض أن ترجع له، أو يفكر كفلسطيني يطالب بحقه كشعب على ارض فلسطين نفسها.
*العودة بدلاً من الاستعادة، الرجوع بدلاً من الاسترجاع. الفرق بين هاتين الاستراتيجيتين، أو هذين المفهومين، هو بين أن"انفض" البساط من كافة كراكيبه، أو أن أشارك في تشكيل هذه "الكراكيب " إن سألتني: أين تريد أن تؤسس جامعة القدس العاصمة في فلسطينك المتحررة؟ فإنني سوف أقول: لا بأس بالمكان الذي توجد به، لا بأس بالبناء. وان سألتني: أين تريد بناء برلمانك الفلسطيني في عاصمتك؟ فأنني سوف أقول :لا بأس بالمكان الذي يوجد به، ولا بأس بالبناء .
* أقول: الفرق بين مفهومي الاستعادة والعودة هو الفرق بين المفهوم الذي يرتكز إلى شطب ما يوجد كلياً لإستبداله "بكراكيب" جديدة_ أبنية جديدة، مؤسسات جديدة، الخ، والمفهوم الذي يرتكز إلى التحيز في ما يوجد. هو الفرق بين أن "انفض" البناء ومن فيه " وبين أن املأ البناء بنفسي.
* في النهاية، فالفرق هو بين تحرير الأرض وتحرر الشعب: تحرير الأرض يعني تخليصها من الغير. تحرر الشعب يعني تمكن الشعب من الحصول على كافة حقوقه، تماما كالغير. تحرير الأرض يعني انتزاعها من مكانها، أو انتزاع ما فيها ومن فيها منها. وتحرر الشعب يعني أن يتمتع بكافة حقوقه السياسية. وأهمها حقه في تقرير مصيره. بالطبع، تحرير الأرض لا يقود بالضرورة إلى تحرر الشعب. فقد "تتحرر" أريحا طبق هذا المفهوم الساذج “للتحرير" ويبقى الرياحنة غير أحرار. وللبرهان فما عليكم إلا النظر في الوضع القائم بكثير من الدول "المحررة" من "نير الاستعمار"، ومنها بعض الدول العربية.
*ماذا حدث في حزيران 67؟ إمْا أن نقول إننا قد فقدنا الأرض، أو أن نقول إن الأرض قد استعادت وحدتها، وان فلسطين قد أصحبت واحدة مرة ثانية. وإن كانت هذه الوحدة تحت سيطرة سياسية مرفوضة. أما أن نقول: علينا استعادة ما فقد حينئذ. أي أن على العرب استعادة الضفة، أو أن نقول علينا كفلسطينيين العمل على العودة إلى فلسطين الموحدة، وانتزاع كافة حقوقنا فيها، حتى ننجح في تغير تلك السلطة السياسية المرفوضة.
*أن قلنا: هلموا نطالب بالعودة، وبالبقاء، وبالمساواة. هلموا نطالب بحقوقنا في فلسطين الموحدة_ فما نكون نقول هو أن ما نطالب به هو تحرر الشعب الفلسطيني على الأرض الفلسطينية. إن قيل: لكن البنية السياسية هي بنية غريبة، هي بنية صهيونية، فنحن نقول: نعم، ولكنها أيضا بنية فوقية. أما على المستوى الأصلي فأم الفحم فلسطينية.تمام كـ طولكرم. والناصرة فلسطينية، تمام كـ بيت ساحور، والرملة فلسطينية، تماما كـ القدس. الفرق بينها ليس فرقاً فلسطينيا طوعياً، وإنما هو فرق صهيوني قسري. والجليلي بالجذور فلسطيني كالغزِّي، وان كان أحدهما يحمل الجنسية الإسرائيلية، والأخر لا يحمل شيئا.
*نطالب بالعودة (ونعني: العودة إلى ديارنا)، وتقرير المصير (ونعني: أن نصبح أصحاب القرار السياسي) وإقامة الدولة الفلسطينية (ونعني: الدولة الديمقراطية التي تضم عربا ويهودا على قدم المساواة).
* قد يقال: لن تقبل إسرائيل بذلك, نقول: إن مقياس حقنا، وبالتالي مطلبنا، ليس هو ما تقبل به إسرائيل. نحن لا نحدد ما نريد بناءه على ما تريده إسرائيل لنا. نحن نحدد مطلبنا بوضوح، ثم نناضل من أجل تحقيقه.
*نبدأ بالمطالبة، ويبدأ حينئذ النضال: البقاء، العودة، المساواة. من ذا هو الإنسان، أينما كان، الذي لن يضطر إلى الوقوف بجانبي في نضالي لتحقيق هذا الحق الإنساني الأساسي: أن أكون "البقاء"، وان أكون في بلادي " العودة" وان أكون صاحب قراري السياسي، كغيري من الناس "المساواة"؟
*نبدأ بالمطالبة، ويبدأ النضال. الفلسطينيون الموجودون اليوم في فلسطين يشكلون تقريبا نص عدد السكان الفلسطينيين قاطبة. ونصفهم يتمتعون ببعض الحقوق السياسية – في عكا، والناصرة. فنطالب بإستكمال الصورة أن يعود بقية الفلسطينيين، وان يتمتع كافتهم بحقوق سياسية كاملة. في العام"2000" يرتفع عددنا إلى أكثر من 3 ملايين نسمه. في العام 2020، نصبح الأكثرية.
* تتحول إسرائيل، عبر نضالنا المستمر، من دولة صهيونية عنصرية، إلى دولة ثنائية القومية، إلى دولة عربية ديمقراطية. وليستمر الأمر 50 عاما، فنحن هنا، ونحن باقون.
* تكون فلسطين قد تحررت عبر تحرر شعبها على أرضها. هذا هو حلمي، وهذه هي الشكلية لتحقيقه.
* تخيل معي الآن، كيف يكون الوضع، فيما لو تبنت مجموعة الدول العربية هذه الاستراتيجية الجديدة، وتبنتها أيضا منظمة التحرير: يطالبون جميعا بإعادة كافة اللاجئين، وبإعطائنا جميعاً كافة حقوقنا.
* لا نطالب برمي اليهود بالبحر، ولكن نطالب بان لا نرمى نحن بالصحراء.