صحيفة القدس 10\1\2003
عنصران تميّزت بهما " فتح" عند انطلاقتها ، هما " فلسطنة " منطلقـها وثورية منهجها .
أما الأول فلم يكن تجرداً عن عروبة القضية أو جوهرها كقضية تحرر عالمية بقدر
ما كان تأكيدا لدور الشعب الفلسطيني الفاعل في تحديد مصيرها . واما الثاني فلم يكن هو الآخر إعلاناً عن الكفاح المسلح كأداة ثورية فحسب، بقدر ما كان إعلانا عن إبداعية الإرادة الفلسطينية في توظيفها للأدوات الفاعلة لتحقيق غاياتها .
إن هذين العنصرين وان لا زالا من حيث الجوهر يحددان الأصالة في التميّز في الخريطة السياسية، فانهما من حيث الشكل والأداء بحاجة إلى التكيف والتطّور إذا مــا أرادت " فتح " أن تتمسك بأصولها ، وان تحترز في الوقت ذاته من تحجر قد يصيبها .
لكن ليست آفاق " فتح " هي فقط بالميزان، فان من المسلمات السياسية الراهنة أن الشعب الفلسطيني لن يحقق تقدما نحو أهدافه ما لم تقده " فتح " ، وعندما تبنت حركـــة " فتح " قضية الشعب الفلسطيني ، منطلقا ومنهجا ، ونجحت في فرض قيادتها ووصايتها ، فهي وللاعتبار ذاته أصبحت نفسها ملكا لهذا الشعب ولقضيته . ومن هنا، فحريّ " بفتح " - ليس لذاتها فحسب كما رأينا ، وانما لشعبها وقضيته أيضا - أن تدأب على تجديد رسالتها ، فتتمسك بأصلها، منطلقاً ومنهجاً، ولكن تعبر عن هذا الأصل بالشكل المتجدد الذي يستدعيه الظرف.
إن " فلسطنة " الرسالة الفتحاوية تعني اليوم ، وفي ظل الوضع الذي نعيش ، أن يتحقق المشروع الوطني في إقامة الدولة، إذ هي ليست دولة شريحة من الشرائح المشتتة، أو قطاع جماهيري من القطاعات المتفرقة، وانما هي دولتنا جميعا، ملاذنا وملجأنا أينما كنا ، وعنواننا الأصيل مهما توزعنا . هذا المشروع الوطني تتجسد فيه المصلحة العامة ، وهو القاسم السياسي الأدنى المشترك والجامع لنا، وهو موطئ قدم لنا على أرضنا، نعيش فيه أحراراً وأسياداً ، نلئم به جراحنا ونصمم مستقبلنا. ليس عبثاً أو ترفاً أو تنازلاً إذن أن نسعى لإنجاز الدولة. فمشروع الدولة كتصميم الجسد السياسي للروح الوطنية، وإلا فبقيت الروح بلا جسد، وبقي الجسد بلا روح، وفلسطنة الرسالة الفتحاوية ما هي إذن إلا بث الحياة في كيان سياسي فلسطيني يتوق للولادة .
واما " ثورية المنهج "، فان تمثلت بالأمس في قنبلة في عيلبون أو في الجرأة العسكرية، فلا بد أن تتمثل اليوم في جرأة سياسية لا تقل عنها، ومن لم يحصد فكأنه لم يزرع. واذا كان رفض الوعي للواقع حوله ليس منهجاً منطقياً، وكان الاستسلام له ليس منهجا وطنيا، فالوعي به من اجل تكييفه لخدمة الهدف التحرري بالأدوات الملائمة مكاناً وظرفاً وتوقيتاً هو من صميم المنهج الثوري. لهذا فإنني أدعو " فتح " للنهل من ينابيعها ، واستنهاض جرأتها واستذكار وظيفتها، فتنطلق مجدداً قائدة لهذا الشعب، ومرشدا له إلى بر الآمان : أما أولا فمن خلال أن تطرح " فتح " مشروعا سياسيا يعكس منطلقها يكون قابلا للتطبيق، ولا اعني أن يكون مقترحا أو طرحا تفاوضيا يمكن التنازل عن محدداته، أو تكتيكيا يخبئ في ثناياه نية للتوسع في هامش هذه المحددات، بل يكون تصورا يعكس تماما وتحديدا ما يمكن أن نقبل به في الواقع الذي نعيش . إن تصميمنا لعناصر الحل ومن ثم العمل على تنفيذه يكون بمثابة تصميمنا للآلية أو الاستراتيجية التي من خلالها نأمل في تحقيق رؤيتنا للمستقبل .
أما ثانيا فمن خلال الفعل في الذات لاعادة تصميمها شكلا ومضموناً، فتتحدد هويتها مجددا، أكان ذلك على مستوى هيكليتها ونظمها، أو كان على مستوى مبادئها التي تنوي إرسائها في دولة المستقبل، وهو الأمر الذي يهيئ لها أن تتحول من حركة قائدة إلى حزب قائد في ذلك المستقبل .
إن الأفكار والأوراق المتداولة في هذا الشأن فتحاوياً ، وخاصة في هيئات الجيل الصاعد، لهي جديرة بالاهتمام من قبل هيئات فتح القيادية، فالتعطش متجذر لدمقرطة المؤسسة الفتحاوية، وللمشاركة الكاملة والمتساوية في كافة الهيئات القيادية، وكذا التعطش لتحديد الموقف القيمي من القضايا المعاشية، الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية الأساسية في دولة المستقبل .
فإن كان في الأمس السؤال " أي دولة نريد ؟ " ليس مدرجا على رأس جدول الأعمال، فلقد اصبح اليوم ملحا. ونحن على أعتاب تحقيق المشروع التحرري، وفي ظل الحملات التسويقية والتجارية الكاذبة والمزيفة لبعض الفرق الانتهازية والأفراد .
ومن هنا فان هذه الدعوة هي من صميم الوظيفة التي يجب أن تقوم بها حركة " فتح "، وهي من صميم مسؤولية آبائها، وعلى رأسهم القائد الرمز أبو عمار، الذي يجب أن يطلق لنفسه العنان مجددا، فيقود حيث يجب، ويفك أسره ممن يجب، ويقود انتفاضة داخلية جريئة لترسيخ الديمقراطية في الحركة، وتوحيد كلمتها، ورص صفها، وتجديد دمها القيادي، استرشادا بتلك الرؤية لطبيعة الكيان السياسي الذي يجب أن نقيم، وتلك الاستراتيجية/ الآلية المتعلقة بطبيعة الحل السياسي الذي يمكّننا من تجسيد تلك الرؤية .
إن كانت " فتح " اليوم وفي ذكرى انطلاقتها تتلوى وتألم، فذلك ليس لاخفاق فيما أنجزته، بل لتحسس فيما يجب وما تبقى إنجازه ، وهو تجسيد ذلك الوعد لتوفير العيش الحر والكريم لأطفال الشتات والمخيمات والقابعين تحت مرمى الدبابات، فنحن وان لم نكن ، مهما حلمنا أو تمنينا، قادرين على استعادة ماضي آبائنا بحيثياته، فإننا قادرون على تصميم مستقبل واعد جديد، بل وملزمون لابنائنا بإنجازه .
سري نسيبة