المقالات

سّــر الـزّر.......!

 صحيفة القدس 7\8\2005
 
خلافاً لما هو عليه الوضع في العالم العربي، لو قام احد منا، في منزله في أية بقعة من الضفة وغزة، أو في مختبره في أية من الجامعات الفلسطينية، أو في مصنعه، بالضغط على زر الكهرباء ليضيء ما حوله، أو لتشغيل أية من أدواته أو آلياته، فانه يكون بعمله هذا بوعي أو بدونه، وبرضى منه أو على مضض، إنما يساهم في الأغلب في تثبت وإشغال شبكة علاقات خدماتية اعتمادية منتشرة مصدرها
إسرائيل وسوقها الاستهلاكي هو الأراضي المحتلة. قد يُقال أن شراء هذه الخدمة من الشركة القطرية الإسرائيلية هو بمثابة "تطبيع" للعلاقة بين الجانبين، وقد يكون القول هذا صحيحاً لو كان المرء منا يمنياً أو سورياً لا تربطه بإسرائيل علاقة، لكن حقيقة، أي «طبيعة» الحال في الضفة وغزة في الأصل هو هذا، وذلك منذ بدء الاحتلال عام 1967، عندما ابتلعت إسرائيل الأرض وما عليها، ووجد الفلسطيني نفسه يعيش داخل أحشاء الجسم الاحتلالي. وتسري حقيقة هذا الحال على معظم مناحي حياتنا المحتلة، من سوق العمالة، إلى التجارة والاقتصاد، إلى عمل مصارفنا البنكية والمالية، إلى كافة "المعاملات الرسمية والإجرائية"، بما فيها مؤخراً، نعم، استصدار "الرقم الوطني" للجواز الفلسطيني، بل قد ينسى المرء أو يتناسى أن كافة هيكليات السلطة ومجالسها وهيئاتها، إنما تقوم على أساس اتفاقية بين الجانبين، هي اتفاقية اوسلو، مع العلم إن غاية هذه الاتفاقية كانت ولا زالت استئصال الحالة الاحتلالية/الاعتمادية التي نعيش، وإعادة صياغتها لتتناسب مع وضع متكافئ ومتوازن بين طرفين.
ولكننا في الأثناء، لا زلنا نعيش في حقيقة الاحتلال، أي في أحشاء الجسم الإسرائيلي، بحيث ما يزيد عن 90% من كافة أنشطتنا التجارية والاقتصادية ترتبط ارتباطاً عضوياً بإسرائيل، بمعنى أن إسرائيل هي مصدرها المباشر وغير المباشر، أكان ذلك بشكل ظاهر (كاستيراد سيارة عن طريق إسرائيل أو ثلاجة من صنع إسرائيلي) أو خفيّ (كاستعمال الموجات الصوتية "للجوال" الفلسطيني). فانك لو مجرد أجريت مكالمة هاتفية، أو استعملت الانترنت، أو "تذاكيت" لتجاوز الحصار فاستعملت "الفيديو كونفرنس" لعقد اجتماع ما بين الضفة وغزة، فإنما تكون تستعمل خدمة تقدمها لك إسرائيل ضمن صفقة أو اتفاق تقوم أنت بموجبه، علمت أم لم تعلم، بدفع ما يتوجب عليك لها ولو بشكل غير مباشر. وحتى لو كنت أنت إحدى الفضائيات العربية "الرنانة" واتيت لتقدم برنامجا "ملتهباً" من إسرائيل، عن طغيانها وبطشها، فإنما تكون في عملك هذا، ومن خلال تشغيل مندوبك الإعلامي واستئجار الاستوديو وفترة البث الجوية، تعتمد علاقة بل واتفاقاً مع إسرائيل، تسمح لك بموجبه أن تشتري الخدمة التي تريد، مقابل الثمن الذي يتوجب عليك دفعه لها.
إن "طبيعة" هذا الارتباط الاحتلالي هو الذي دفع بالقيادة الموحدة للانتفاضة الأولى يوماً ما (عامي 1988 و1989) للشروع في تنفيذ برنامج "عصياني" ارتكز في أساسه إلى محاولة "قطع" أوصال هذه الشبكة المنتشرة وفق برنامج متكامل، أكان ذلك من خلال الاستقالات الجماعية وإعلان العصيان المدني (الامتناع عن دفع الضرائب، أو شراء المنتوجات الإسرائيلية) أو الامتناع عن التعاطي مع الإجراءات والمعاملات الرسمية (الأوامر العسكرية وتعليماتها ورخص البناء.. الخ، وصولاً إلى الهويات نفسها). وتم تنفيذ برنامج المقاطعة هذا جنباً إلى جنب مع محاولات بناء بدائل فلسطينية ما أمكن، كاللجان المحلية في الحارات والبلدات المختلفة، وتم تنفيذ هذا البرنامج كله (أي الاستراتيجية) في إطار هدف واقعي ورؤية سياسية واضحة، تحرّى الجانب الفلسطيني من خلالها "خلخلة" واقع الحال الاحتلالي القائم، والدفع باتجاه اشتباك تفاوضي بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل لإقامة واقع جديد هو الدولة الفلسطينية على حدود الـ1967، وعاصمتها القدس الشريف.
وارتكازاً إلى تلك الرؤية واستراتيجيتها المرافقة، بذلت القيادة الفلسطينية (في الخارج والداخل) جهدها لاستقطاب الدعم والتضامن الدولي على المستويين الرسمي والشعبي، فتم تكريس الجهود جميعها دولياً ومحلياً لإعطاء الزخم المطلوب لتلك الانتفاضة العملاقة (في أول عامين) وذلك تحت شعاري الحرية (فك الارتباط) والاستقلال (بناء الذات) كوجهين لعملة واحدة هي إحداث تغيير جذري في واقع الحال الاحتلالي.
إن مما لا شك فيه أن انتفاضة الشعب العملاقة آنذاك ساهمت مساهمة فعالة في الدفع باتجاه العملية السياسية التي تم تتويجها باتفاق اوسلو، لكن هذا الاتفاق لم يسفر كما كان ممكناً ومتوقعاً، عن ديناميكية التغيّر المطلوب، بحيث عدنا اليوم لسبب أو آخر ليس هذا موضع نقاشه، نعيش حالة احتلالية طبيعتها هي الترابط العضوي الاعتمادي بين الجانبين لم نتمكن حتى اللحظة من إعادة صياغتها أو إلغائها، بحيث لا نزال نعيش وضعاً لا يخطر ببال احد منا فيه، عندما يتوقف لتعبئة سيارته بالوقود في محطة البنزين، أو عندما يشرع بالسفر إلى الخارج عن طريق الجسر والمعابر، أو عندما يطالب "الرباعية" بالتدخل لزيادة تصاريح العمل، انه بعمله هذا يقوم "بتطبيع" العلاقة مع إسرائيل، ذلك لأننا ندرك بداهة أن لا معنى "للتطبيع" (أي أن نجعل أمراً طبيعياً) ما هو من شأنه واصله طبيعة الحال التي نعيش (داخل أحشاء الجسم الاحتلالي).
نعم قد نقرر يوماً ما، إن وجدنا أن الأمر يتطلب ذلك، انتهاج سياسة جديدة لتغيير طبيعة هذا الحال، فتضع قيادتنا مشروعاً وطنياً متكاملاً، أي هدفاً واستراتيجية ملائمة، وقد يبقى الهدف المنشود إقامة دولة إلى جانب إسرائيل، أو قد يصبح دولة ثنائية القومية، وأياً كان الحال، فقد نلجأ حينئذ وبوعي وتخطيط إلى عملية عصيانية شاملة لتحقيق هدفنا ذلك، فنضع جدول الاولويات ونشرع بتنفيذ هذا العصيان ضمن برنامج زمني متسلسل، ونسعى في الوقت ذاته وضمن ذلك السياق لتجنيد الدعم الدولي لمشروعنا هذا، من أصدقائنا في الخارج وغيرهم، بحيث تتلاقى كافة الجهود والضغوط محلياً ودولياً، في نقطة واحدة، بعيدا عن التناقضات في المواقف والأفعال، فتزداد فرص إنجاح مشروعنا الجديد، واستراتيجيتنا الجديدة، وفي ظل افتراض مثل هاته الاستراتيجية قد نقرر أو نجد أن رأس الحربة في سلسلة المقاطعة التي يتوجب علينا تنفيذها عندئذ إنما يجب أن يكون في صلب شبكة العلاقات الرسمية بين الجانبين (السلطة والحكومة الإسرائيلية)، وقد نجد أيضاً أن نقطة الارتكاز الأولى في هذه الشبكة إنما يتوجب أن تكون عملية المفاوضات نفسها، فيتم إلغاؤها أو تعليقها، ويتبعها التنسيق الأمني بين الجانبين. وهكذا دواليك، إلى أن نصل إلى قطع أوصال شبكة الترابط، وفق برنامجنا السياسي الجديد وحسب تحقيقنا للهدف المنشود.
بل وقد نجد في هكذا ظرف، ومن اجل إنجاح الضغوط على موقف الخصم الرسمي، وإلى جانب سياسة المقاطعة لأجهزة الخصم الحكومية، ضرورة انتهاج سياسة عكسية على المستوى الشعبي، فنسعى للمقاطعة الرسمية من جهة، بينما نعمل على فتح الجسور وتمتينها وتوسيعها مع المجتمع المدني في إسرائيل من جهة أخرى، وذلك بغية كسب ما أمكن من المواقف الشعبية الإسرائيلية إلى جانبنا، وزيادة الضغط بالتالي على الموقف الإسرائيلي الرسمي.
مفاد القول أننا مهما فعلنا ومهما كانت النوايا والشعارات، فان فعلنا هذا سيكون اعتباطياً ومردوده سلبي أو عقيم ما لم يكن جزءاً من عملية شاملة ومتكاملة، وإننا اليوم لسنا أصلاً في معرض قطع أواصر الصلة مع إسرائيل، بل نسعى لبنائها على الصعيد الرسمي، ولإعادة صياغتها نحو تكافؤ ما وتوازن ما على الصعيدين الحياتي والسياسي، في سياق ما زلنا نأمل بأن يكون دولة سيادية عاصمتها القدس الشريف، ونحن لا نزال، وهنا بيت القصيد، وعودة إلى "زر" الكهرباء، نمد أيدينا صباحاً مساءاً إلى هذا "الزر البريء"، والذي به ومن خلاله نستضيء من مصدر إسرائيلي وفق اتفاق ومقابل ثمن، شأننا في ذلك شأن معظم مناحي الحياة الاعتمادية التي نعيش.
وهنا يتبادر السؤال إلى الذهن والذي تم طرحه ومناقشته قبل حين، فيما إذا كانت العلاقة العلمية تحديدا بين الجانبين، على ضآلتها، تنفرد من بين العلاقات الحياتية الاحتلالية الأخرى، بضرورة وصفها كعلاقة "تطبيعية" يتحتم على الجانب الفلسطيني نبذها أو قطعها. وأود في هذا السياق أن أصوغ هذا السؤال في إطار مثال زر الكهرباء الذي ذكرت وفي ظل "طبيعة" الحال الاحتلالي التي نعيش: فأيهما أقرب وأكثر فائدة للمصلحة الوطنية، أن نسعى للاستضاءة "الخدماتية" أم الاستضاءة "العلمية"؟ أي أن نشجّع الاستمرار في شراء الخدمة الكهربائية من شركة إسرائيلية أم أن نشجّع باحثاً فلسطينياً في علم الفيزياء لكسب العلم من باحث إسرائيلي في علم الضوء؟؟
إنني شخصيا اعتقد، أن من بين كافة أنواع العلاقات التي تربطنا أو قد تربطنا بإسرائيل، الخفّي منها والجلّي، إن العلاقة العلمية هي الوحيدة أو الأولى التي تعود بالفائدة العامة على المجتمع الفلسطيني، ويجب أن تكون الأخيرة بالتالي، إذا ما نوينا حقاً المباشرة في قطع العلاقات مع إسرائيل ومن خلال خطة مدروسة، التي يجب أن يُصار إلى مقاطعتها، فهي ليست كغيرها من العلاقات الخدماتية أو التجارية التي من شأنها إفادة أشخاص أو شرائح بعينها مع الإبقاء على المجتمع في جهالة الاستهلاك الاعتمادي، بل من شأنها توفير "الاستنارة" العلمية من خصم نتغذى منه في طبيعة الحال في معظم نواحي الحياة، ويمكن من خلالها بالتالي الاستفادة لتطوير القدرة الإنسانية نحو الاستقلال الحقيقي. إن من ضمن ما أجده حقاً من المفارقات عجيبة الشأن في عالمنا السياسي الفلسطيني، وهي عديدة، أن يقوم بعضنا بالتحريض على قطع هذه العلاقة بالذات، من دون كافة أنواع العلاقات الأخرى، وهي جميعها وعلى رأسها مثلا التصاريح الخاصة لتنقلات "ذوي الشأن" من الشخصيات إنما تخدم الجانب الآخر في الدرجة الأولى، وأشخاصاً أو شرائح من الجانب الفلسطيني بدرجة ثانوية.
قد قيل في هذا الشأن إن المؤسسة العلمية الإسرائيلية تقع في صلب المؤسسة العدوانية الإسرائيلية، وتغذي شرايينها، بل وإنها تمارس أقبح أنواع التمييز والقمع، ليس ضد الفلسطينيين فحسب، وإنما ضد الإسرائيليين أنفسهم الذين يؤيدون الموقف الفلسطيني، لكن هذا القول، وان افترضنا صحته بدرجات متفاوتة بين المؤسسات الأكاديمية المختلفة، فهو قول ينطبق على كافة المؤسسات الإسرائيلية، وعلى رأسها المؤسسة الرسمية نفسها، فلا خلاف إذاً حول ما إذا كانت إحدى المؤسسات إحتلالية أم لا، كما لا خلاف على ضرورة استئصال هذا الاحتلال من جذوره، لكن الأمر يتعلق أساساً بإيجاد أفضل السبل لتحقيق هذا الغرض من داخل المواقع الاحتلالي، ولتوفير الأدوات الضرورية لتحقيق الحرية للأفراد والجماعة، وتوفير المقدرة بالتالي لأبناء الشعب الفلسطيني للتطور نحو الأفضل، الأمر الذي يتطلب أول ما يتطلب تفعيل العقل وتوضيح الرؤية والتخطيط السليم، وتحديد مقاييس الاستفادة من علاقة ما وقواعدها والجرأة على مواجهة الواقع كما هو بغية تغييره بدلا من الجعجعة في ظلمات الجهالة، أو الغوص في متاهة «النوايا الحسنة» أو اللجوء المخجل للبعض لاتخاذ المواقف المزدوجة في هذا الشأن (التستر في النهار عما يفعله في الليل أو أن ينادي بالمقاطعة عندما يكون طالب دكتوراه في جامعة إسرائيلية).
فما رأيكم إذا بامرئ يطالب بالمقاطعة العلمية عبر موجة صوتية أو هوائية تبث ارتكازاً إلى علاقة تجارية مع إسرائيل؟ قد يخطر ببال القارئ الآن أن ثمة تناقض في هذا الشأن، لكنني اذهب إلى ابعد من هذا وأقول إن التناقض إنما يكمن موضوعياً في موقف المتحدث نفسه، لكنه بالمقابل يعبّر عن انسجام موضوعي تام في الموقف الاحتلالي، فمما لا شك فيه أن الاحتلال يريدنا أن نضغط على زر الكهرباء لا أن نغوص في ما يعرفه عن الضوء.  

سري نسيبة