المقالات

السياسة الناعمة: نعم ولكن!


في مقاله الأخير (ملتقى فلسطين) يتطرق الأخ الدكتور إبراهيم فريحات للقوة الحقيقية التي يمتلكها الفلسطينيون والتي برأيه عليهم التمسك بها واستثمارها في مواجهتهم للصهيونية وهي تفوقهم الأخلاقي على خصمهم والتي سوف تكسبهم التأييد المتزايد دوليا وإقليميا لموقفهم. ولا أعتقد أن أيا منا يمكنه الاختلاف حول ذلك.
لكن الاختلاف قد يدور أولا حول “موقفهم”. ان كان هذا ما جرت تسميته ب “المشروع الوطني”، أي دولة “القمة العربية” الى جانب دولة اسرائيل، فحري بنا أن نواجه حقيقتين متلازمتين: الاولى أن الطريق لمثل هكذا دولة سوف تكون المفاوضات، والثانية هي أنه لن يمكن عمليا أن تقوم دولة الى جانب إسرائيل لا تقبل الأخيرة بمواصفاتها حدوديا وأمنيا. ما يعني عمليا أن هذه الدولة لن تتطابق مع صورتها كما قد توجد في المخيلة الفلسطينية أو الخطاب السياسي الفلسطيني (على حدود ال ٦٧, بدءا في القدس). وجميعنا على علم بما أثبتته التجربة التفاوضية المضنية الماضية، وذلك مع وجود الدعم الدولي والإقليمي لعملية التسوية. يقودنا هذا للاستنتاج انه فيما لو استؤنفت المفاوضات لإقامة دولة فسوف نجد أنفسنا ندور في نفس الدائرة التي كنا فيها سابقا، مع الفارق بأننا سوف نواجه حقائق كثيرة إضافية زرعتها إسرائيل في الأثناء.
قد تكون هكذا دولة بالرغم من ذلك ومن حيث المبدأ أمرا مرغوبا (عند القيادة مثلا)، أو أقل سوءا من استمرار الحال على ما هو عليه. نذكر هنا أن المفاوضات السابقة توقفت بسبب التفاصيل وليس حول المبدأ. نذكر أيضا أنها ومنذ أن توقفت فالقيادة عمليا وفي هذا المضمار توجد في مأزق ولا تفعل شيئا سوى الانتظار لمن يخلصها من الحال الذي هي فيه. دعنا الأن ننظر في هذا الحال: الدولة “النموذج” في الخطاب الفلسطيني هي دولة “القمة العربية”. وتطرح هذه أمام اسرائيل والمجتمع الدولي كشرط للسلام وتطبيع الدول العربية لعلاقاتها مع إسرائيل. لكن الواضح أن هذا الشرط ليس مقبولا أصلا من الجانب الإسرائيلي. وأن المجتمع الدولي ليس على وشك فرضه فرضا على اسرائيل. ما يتبقى هو استمرار الحال الذي نحن عليه.
أتي الآن للأمر الثاني الذي يوجد اختلاف عليه وهو المبادرة الاماراتية ومعنى “السياسة الناعمة”: وهنا يمكن القول ان مبادرة دولة الامارات الأخيرة في السياق يمكن أن تشكل نموذجا مميزا لهذه السياسة! فهي تتجاوز شرط التطبيع (تمد يدها للسلام مسبقا) دون أن تتخلى في خطابها عن مطالبتها بدولة “القمة العربية” التي يطالب بها الفلسطينيون. فاذا كانت القيادة كما قلنا ترغب فعلا في الخروج من مأزقها والعودة الى المفاوضات، ليس هنالك ما هو “أنعم” من الاستناد الى مبادرة نالت تأييدا من اسرائيل والولايات المتحدة، واستثمارها كمنفذ لاختراق الجمود السياسي الذي توجد فيه. البديل لها، طبعا، هو أن تستمر تلك القيادة في الانتظار الى أجل غير مسمى لكي تنقلب الموازين الإقليمية والدولية وتأتيها دولة “القمة العربية” على طبق من فضة!
هذا من جهة. من جهة أخرى علينا أيضا أن نذكر أنه اذا كان “المشروع الوطني” في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات (كما في المخيلة وفي الخطاب) مشروعا مقبولا في أوساط وازنة في صفوف الشعب الفلسطيني، فقد أصبح هذا المشروع في الأثناء وبعد تجربة المفاوضات و تجربة الحكم الذاتي في غزة والضفة عير السنوات الماضية مشكوكا في أمره. ما أستنهض التفكير مرة أخرى لدى كثيرين في وحدانية الشعب وضرورة إيجاد الحل الذي يناسب هذه الوحدانية من جذورها. تسوية الدولتين المنظورة لا تعالج هذه الوحدانية بل ما يعالجها ببساطة هو تحقيق مشروعين متلازمين هما العودة والمساواة، قد يضاف اليهما ما يسمى بالحق الوطني لتقرير المصير. هنا نعود ثانية ل “السياسة الناعمة” والقوة الأخلاقية. أعتقد أن إعادة ترشيد الاستراتيجية الفلسطينية في هذا الاتجاه (ألنضال السلمي من أجل العودة والمساواة) سوف يكون أكثر جذبا في أوساط الشعوب إقليميا ودوليا من مشروع دولة السلطة التي نعرف. بطبيعة الحال، نكون نتكلم هنا عن نضال طويل الأمد، يتطلب توفر مجموعة شروط، منها استعمال السياسة الناعمة في الشارع الإسرائيلي نفسه لاستقطاب جماعات وازنة فيه لتحقيق نفس الهدف.
أعود للبدء: كأن القيادة في رام لله تركن في محطة أو موقف تنتظر من يخلصها منه. لا سبيل لها عمليا للخلاص الا عن طريق المفاوضات. من المتوقع أن وقوف المجتمع الإقليمي والدولي في وجه مخطط نتانياهو سوف ينتج عنه دفع أو ضغط متزايد لإعادة طرفي النزاع الى مائدة المفاوضات، وما المبادرة الاماراتية الا شكل من أشكال المشهد السياسي هذا الجديد. لكي نستقرئ نحن المستقبل الواقعي المنظور (بأي اتجاه سوف تسير عليه الأمور) علينا هنا الإجابة عن السؤال: من يمتلك إدارة شؤون الفلسطينيين؟

سري نسيبة