المحاضرات / مؤتمرات

لبنة أخرى في الجدار*

 توجد عدة عوامل ذات أهمية من المفيد أخذها بعين الاعتبار حين نأتي لمعاينة وضع و هوية مؤسسات التعليم العالي في البلاد و أهمها برأيي تحديد موقع هذه المؤسسات في الخريطة الزمانية\المكانية للتعليم عموما في البلاد و التجربة التكوينية لهذه المؤسسات, بمشاكلها و حلولها اللحظية. ويمكن أجمال بعضها كالآتي:  
 
١)البيئة الاجتماعية\التربوية, و أشير بهذا الى كافة تلك العناصر التي يتكون منها المجتمع (اقتصاد, تعليم, ثقافة عامة, الخ) والتي شكلت و تشكل البنى التحتي لمؤسسات التعليم العالي التي تم البدء في اقامتها في فلسطين منذ سبعينات القرن الماضي, و في هذا الصدد لا يمكن تجاهل أثر غياب سلطة فلسطينية مستقلة ذات استراتيجية و موارد مخصصة لتنمية المجتمع في المراحل الممتدة قبل و منذ افول الحكم العثماني الى يومنا هذا, الأمر الذي ترك بصمته على البيئة المتخلفة التي أحاطت و تحيط بالتجربة و لو المميزة التي بادر اليها المجتمع المدني لأقامة الجامعات في العقد السابع من القرن الماضي. فمما لا شك فيه ان تقييما موضوعيا للمستوى التربوي و التعليمي في الجامعات و للعلاقات الإدارية و البشرية هذا اليوم فيها لن يكون وافيا ان لم يأخذ بعين الاعتبار مثلا مدى و مستوى و مراحل انتشار التعليم في البلاد و مستوى و نوعية الثقافة العامة الممتدة في المجتمع و كونت جميعها الأرضية التي تمت المباشرة في تأسيس الجامعات عليها, فنحن انما نتكلم عن فترة لا تتعدى جيلا واحدا فقط (من العقد الثاني الى السابع من القرن الماضي) انتقلنا به من مرحلة كانت تسودها الامية و لم يكن فيها مطبوعة عربية واحدة الى عهد باشرت فيه أطراف في المجتمع المدني و في غياب سلطة ذاتية لاقامة الجامعات. وليس عيبا الإشارة الى انه و باستئناثات فردية بسيطة فلم يكن المناخ ناضجا بكل معنى الكلمة لوجود او إيجاد مؤسسات تعليم عالي عند المباشرة بها أكان ذلك على مستوى المؤسسين لها أو المصادر المالية المتوفرة أو الكادر الوظيفي أوالمستوى التعليمي المحيط في المدارس أو المجتمع. بل و من الجدير ذكره أيضا ان الكادر الأكاديمي في الجامعات اليوم و الذي لا يعد أكثر من ألفي من حاملي الدكتوراة و القائمين على تدريس ما يزيد عن ربع مليون طالب انما يمكن اعتباره انه ينتمي لجيل ثالث فقط من الاكاديميين لم يكونوا بالأغلب بدءا ممن لديهم خبرة أو خبرة مميزة في تأسيس الجامعات. ومن المخرجات المهمة لهذه الخلفية التاريخية بوجهها العام تلك التفاعلات التي شاهدنا و نشاهد داخل المجتمع الجامعي التي لم تسمح بعد لاستقرار هوية بعينها أو إدارة نموذجية أو استراتيجية جامعية متفق عليها في أوساط المعنيين. فهل الجامعة بالأساس هي أداة من أدوات النضال ضد الاحتلال, و كيف ذلك, و هل تصب جهدها على رفع مستويات التعليم المتدني في المدارس, و كيف يكون ذلك, و هل يتلخص دورهاعلى سد احتياجات المجتمع, و كيف نتفق على ما هي تلك الاحتياجات, و هل عليها ان تسعى لمواكبة الجامعات العالمية في نشر الأبحاث, و في أي مجال أو لغة يمكن ذلك, أم هي الآن مجرد تجارة لرجال الأعمال, و هكذا. و ما أود قوله في هذا المجال ان عدم التوصل بعد لتحديد استراتيجية ملائمة للتعليم العالي حتى الآن و استمرار البحث عن هوية جامعية واضحة في هذا السياق و أخذا بالاعتبار الخلفية العامة المشار اليها لا يمكن اعتباره أمرا غريبا و انما هو حال طبيعي بل وصحي يمكننا التعامل معه حسبما تمليه ظروفنا المحلية و تتطلبه تطورات العلم و التعليم على الصعيد العالمي.
 
٢) الأحتلال, باستثناء فترة العشرين عاما الوجيزة خلال القرن المنصرم و الذي انتقلت فيه إدارة الأراضي التي احتلت فيما بعد أي بعام ٦٧ الى أيد عربية, فان وقوع فلسطين عموما و أراضي الضفة و غزة بخاصة قبل خمسين عاما تحت أيدي أسرائيل يعني كما قلنا استمرارا لغياب سلطة ذاتية طوال القرن الماضي لديها القدرة على وضع و تنفيذ استراتيجية واضحة تلائم تطلعات ألشعب الفلسطيني للتطور أسوة ببقية الشعوب. لكن الوجه الآخر و المرافق لغياب السلطة الذاتية التي يمكنها التخطيط و التنفيذ الذاتي هو وجود السلطة الاحتلالية التي تخطط و تنفذ لتطلعاتها هي, أكان في ما أصبح دولة إسرائيل, أو في المناطق المتبقية, ونحن نعلم انه لم تلبث الجامعات الفلسطينية أن خرجت الى حيز الوجود في هذه المناطق المتبقية حتى باشرت سلطات الاحتلال في محاولة لتقويضها و تطويعها, بدءا بنفي أول رئيس لها و هو الدكتور حنا ناصر خارج البلاد الى المحاولة الفاشلة في أوائل الثمانينات لفرض الأمر العسكري رقم ٨٥٤ عليها,  حين حاول الاحتلال النفوذ من خلاله الى قلب مؤسستنا الجامعية ليسيطر عليها, أكان ذلك على مستوى تعيينات الأساتذة و الموظفين فيها أو قبول الطلبة أو البرامج الاكاديمية او المناهج و الكتب أو السياسات عموما, و ما لنا في هذا الصدد الا ان نحيي صمود و مقاومة الجامعات في حينه طلبة و موظفين الذي أفشل مخططات الاحتلال تلك و لو بثمن و أجبره على التراجع. و مع ذلك فلقد بقي الاحتلال في هذه المناطق يفرض واقعا مقيدا على نمو الجامعات حتى الى ما بعد التوقيع على أوسلو و الى يومنا هذا, و ذلك كجزء من سياسة القفصنة والتقييد الذي يفرضه على الشعب في هذه المناطق و مؤسساته, الرسمية منها و غير الرسمية, و لكن أصعب هذه التقييدات في هذا المجال برأيي تلك التي فرضها و يفرضها منذ أوسلو على جامعة القدس تحديدا. و هنا فأسمحوا لي ان أضعكم في صورة بعض الخصوصيات في التجربة الجامعية هناك, و التي و ان كانت تجربة خاصة مع الاحتلال فقد يمكن مع ذلك ان تلقي ضوءا على طبيعة المشاكل العامة و التي يمكن تسميتها داخلية و تتشارك الجامعات كافة فيها, و سوف أتطرق اليها فيما بعد.
 
كما تعلمون, انتقل تسجيل كافة المؤسسات و الهيئات و الشركات و الجمعيات و المحال التجارية التي وجدت في القدس قبل العام ٦٧ و التي أقيمت بعد ذلك التاريخ الى السجلات الإسرائيلية كجزء من تطبيق قانون ضم القدس الشرقية لأسرائيل, و بقيت جامعة القدس كمؤسسة متواجدة داخل و خارج الحدود التي رسمتها إسرائيل للمدينة بعد قيامها بمصادرة أراض من المناطق المحيطة –وصلت شرقا لتقسم حرم الجامعة في أبو ديس الى شطرين- بقيت في نهاية الامر وحيدة في هذا الشأن, دون ان تسجل نفسها كمؤسسة تابعة للنظام الإسرائيلي. و في العام ٩٥ قررت المؤسسة الإسرائيلية اعتباطا سحب الاعتراف بشهادات الجامعة لخريجاتها اللواتي كانوا يعملن في المؤسسات الإسرائيلية المختلفة, و في لحظة قيام المحكمة المركزية بقبول دعوى تلك الخريجات التي رفعت ضد الحكومة, وجدت الجامعة نفسها امام المحكمة العليا بدعوى ان الجامعة ليست كيانا قانونيا, فاما ان تخرج من القدس و لا سلطة رسمية لإسرائيل عليها كما الامر بالنسبة لبقية الجامعات الفلسطينية او ان تسجل نفسها في إسرائيل كبقية المؤسسات الفلسطينية الموجودة في القدس, و الا فتبقى مسألة الاعتراف بشهاداتها مسألة معلقة. و بدأت هنا معركة قانونية\سياسية لم تنته بعد, ليس شئ منها له علاقة بتسمية الجامعة كما اشاع بعض الجهلة- تقصد و قصدت منها إسرائيل ان تشل حياة مؤسسة وطنية من مؤسسات القدس و متبقية فيها بعد أغلاق بعضها  وهجرة أخرى منها, تخدم من ضمن من تخدمهم أبناء القدس ليبقوا فيها, فاما ان يتجه هؤلاء الى مؤسسات خارج القدس, الامر الذي يؤدي الى فقدان المؤسسة مبررا أساسيا لوجودها في القدس, و اما ان تخرج المؤسسة من القدس, مما يقود الى النتيجة نفسها.
 
لا اود الاسهاب في تفاصيل معركة أجهدت الجامعة و انهكتها طوال هذه السنين, لكنها قصة تحد للمؤسسة الوطنية الجامعية بامتياز, لا تشاركها فيها أية من أخواتها على ارض الوطن. و ان كان الامل في لحظة ما ان تستكمل اتفاقات أوسلو و يجري تطبيق ما تم تطبيقه في بقية الأراضي المحتلة في القدس أيضا, فلم يعد هذا الامل اليوم ذا معنى و يبقى التحدي قائما. بقي ان أقول في هذا الشأن ان قيام إسرائيل بتوسيع حدود المدينة شرقا ليقسم الحرم الجامعي في أبو ديس الى شطرين تبعه قرار بناء الجدار في وسط هذا الحرم و مصادرة الشطر الغربي منه لعزل التجمعات السكانية في المنطقة عن مدينتهم, مما وضع الجامعة بكافة هيئاتها في حالة تصدي جسمي و شعبي و اعلامي مع الجيش و جرافاته و أوامره ما يقارب أربعين يوما و ليلة انتهت برجوع الجيش عن مخططاته السابقة و رفع يده عن الجزء الأكبر من أراضي الجامعة التي أراد ابتلاعها. و حصل كل ذلك قبل ان ينتبه المجتمع الفلسطيني آنذاك لإجراءات الاحتلال المشابهة على طول الخط الأخضر و التي أفرزت المقاومة الشعبية في تلك المناطق فيما بعد, بنتائج متفاوتة.
 
قد تستغربون ان قلت انه و بالرغم من كل ذلك, و من التحرشات المستمرة في أعمال و ابنية الجامعة و أنشطتها داخل القدس و داخل البلدة القديمة, حيث تقوم الجامعة بمحاولة مضنية لسد الفراغ الناشئ عن هجرة أو أغلاق كثير من المؤسسات ذات الصلة بتقديم الخدمات مختلفة الشأن للمجتمع المقدسي, و بالرغم من اقتحامات الجيش المتكررة للحرم الرئيس في أبو ديس و التابع لمنطقة "ب", و الذي وصل عددها ذات عام قبل بضع سنين اكثر من أربعين اقتحام عنفي, فان التحديات الأخرى و الداخلية التي واجهتها الجامعة  خلال عقدين من الزمن و المترتبة على الأرضية التاريخية التي سبق و ذكرت فاقت بحديتها و عمقها بكثير تلك المعارك التي ذكرتها مع الاحتلال. وأريد هنا ان اضعكم بصورة هذه العقبات التي اسميتها "داخلية" ولو بشكل مختصر أيضا, و ترتبط جميعها باعتقادي ولو بشكل مباشر او اخر بوضعية المؤسسة التربوية في المجتمع الفلسطيني في الخريطة الزمانية المكانية التي سبق و ذكرتها في مقدمة مداخلتي, و التي تعكس تدني المسؤولية المجتمعية و غياب التهيئة الاستراتيجية لبناء مؤسسات التعليم العالي في الوطن.
و أولى هذه الصعوبات كان انعدام خطة وطنية لتأسيس جامعة في القدس –تلك التي نادى رؤساء الدول الإسلامية باقامتها في مؤتمرهم المنعقد في القدس عام ١٩٣٠- و حاول البعض أحيائها في الخمسينات لتستبدل للأسف بمشروع الجامعة الأردنية في عمان, , ثم تبع ذلك الفتور لدى القيادات الوطنية المحلية في السبعينات لاحياء الفكرة من جديد بدعوى أن القدس أصبحت تابعة للنظام الإسرائيلي, الى ان قامت أربع أطراف مختلفة في أواخر السبعينات بانشاء اربع مؤسسات منفصلة عن بعضها احداها في أبو ديس و الأخرى في البيرة توجهت كل منها الى اتحاد الجامعات العربية لنيل الاعتراف بشهاداتها فطلب من القائمين على المؤسسات الأربع الاتحاد تحت مسمى واحد  لكي يتم الحصول على ذلك الاعتراف, فتأسس منذ ذلك الوقت اتحاد اسمي تبعته خطوات بطيئة لتحويله الى اتحاد فعلي, و تبع ذلك أيضا فتور بل و مقاومة مؤسفة من قبل مؤسسة التعليم العالي و التي نظر بعض أعضائها الى هذا الكيان الجديد نظرة تخوف من منافسة متوقعة مع المؤسسات التي يترأسونها, فكان من ضمن ما اتهمها به أحد أصحاب الشأن في لحظة ما بأنها تقوم بالتوسع, في لحظة غاب عن باله فيها ان الجامعة ليست مستوطنة, بل مؤسسة تناضل من أجل تثبيت الهوية الوطنية على بقعة حساسة, و ان مؤسسة السلطة ووزارته عليها واجب تقديم كل العون لتطوير مؤسسة في مدينة هجرتها الاتفاقات السياسية وهاجرها الناس و مؤسساتهم الى العاصمة الجديدة, و من مآسي الامور ان قام وزير التعليم العالي في لحظة ما و قد كان قد شغل سابقا رئيسا لاحدى هذه المؤسسات الجامعية باستصدار مرسوم من الرئيس عرفات (تم ابطاله فيما بعد) يقضي بمصادرة كلية الطب التي أنشأتها الجامعة الفتية لكي تصبح شؤونها تابعة لوزارته. ان قصة التدخلات السلبية لأصحاب النفوذ مستمرة للأسف حتى اليوم و تتخذ شكل الملاحقة لمنع تمكن الجامعة من تجنيد الدعم المالي لها من الدول الصديقة, هذا في حين يستمر أصحاب الشأن هؤلاء و غيرعم بالتغني بالقدس كعاصمة للشعب الفلسطيني.
 
أسوق هذه الأمثلة و هي غيث من فيض لانها كتحديات و عقبات لا شأن للاحتلال بها, و انما تنبع من التشكيلة المجتمعية التي نوجد كمؤسسات جامعية في صميمها و التي من المفترض ان نكون نحن قادرين على تذليلها دون اللجوء الى هيئة الامم او مجلس الامن. و للأمانة فأقول انه لولا الوعي السياسي الذي تمتع به الرئيس الراحل عرفات لما تمكنت الجامعة من تذليل تلك العقبات التي رافقتها منذ اللحظات الاولى لتكوينها.
 
٣)ألتحديات الداخلية,  و أنتقل الان لوضعكم بصورة التحديات الداخلية التي انعكست إجراءات الاحتلال و غياب الاستراتيجية الوطنية لبناء الجامعة عليها, و التي تتلخص بدءا بتردد موظفيها و ممانعة بعضهم لإجراءات التوحيد الفعلية, فكانت احدى الاعتراضات تتعلق بحقوق نهاية الخدمة التي لم توفرها ثلاث من كلياتها التأسيسية, و التي تخوف الموظفون من فقدانها في حالة نقل ارتباطهم الوظيفي الى كيان قانوني جديد, فما كان من الجامعة الفتية الا ان تتحمل على عاتقها كافة تلك الديون, و غيرها, في سبيل انجاز ما اعتبرته هدفا وطنيا تتساقط التبريرات المالية و غيرها امامه, و هذا في الوقت الذي كانت فيه جيوبها فارغة تماما. و هنا فغني عن القول ان اغلاق الجامعة كان و قد يكون انجع ماليا من الإبقاء عليها و توسيعها, مما ينبهنا الى دور نضالي للجامعات في هذا الوطن يفوق كثيرا أدوار الجامعات في دول مستقلة, ولا يختلف فلسطينيان ان تأسيس جامعة قوية في القدس انما يشكل هدفا وطنيا من غير المقبول المساومة عليه, علما ان الجامعة كما قلنا ليست ترفا هامشيا للمجتمع و انما ركن أساسي من أركانه الذي نصبو لتطويره نحو الأفضل.   
لقد كان العامل المالي دوما مصدر قلق و الم للجامعة, وجميعنا يعلم تقاعس السلطة عن تقديم الدعم المالي اللازم للتعليم الجامعي, و خاصة أثناء تلك الفترة الاولى و الحرجة لتأسيس الجامعة عندما بدأ الاتحاد الاوروبي بتخفيض معونته للجامعات سنة بعد أخرى و لفترة خمس سنوات بعد إقامة السلطة متوقعا ان تبدأ السلطة التي بدأ بتغذيتها ماليا تغطية هذه التخفيضات بشكل متساوق في ميزانيات الجامعات السنوية. تبع ذلك, كما نعلم, و بعد انقضاء فترة الخمس سنوات التي لم تحرك السلطة فيها ساكنا, إقرار السلطة أخيرا بضرورة تقديم حجم المعونة ذاته, ثم عدم التزامها كليا بهذا القرار, و ثم إقرار المجلس التشريعي بضرورة مضاعفة هذا الحجم, بخاصة في ظل التوسع الذي شهدناه في اعداد الطلبة و المدرسين و المؤسسات القائمة على ذلك, دون تنفيذ الى هذا اليوم لهذا القرار – أمر مؤسف عندما نقارن النسبة المخصصة للأجهزة الأمنية مع تلك الهزيلة للتعليم العالي.
 
قلت ان إجراءات التوحيد و التوسع في الجامعة لاقت تحديات داخلية نتج بعضها عن عوامل مالية, لكنها لاقت تحديات أيضا مرتبطة بذلك نتجت عن عدم ارتياح الكادر الموجود آنذاك لعملية التوسع هذه, فلم يرق للأساتذة الموجودين على رأس عملهم و يتقاضون رواتبهم بشكل متقطع أو جزئي بسبب الشح المالي, استقدام و توظيف أساتذة جدد, أكان ذلك في دوائرهم, أم للبرامج المستحدثة, أو في مراكز خدماتية مختلفة قامت الجامعة على تأسيسها كجزء من تواصلها مع المجتمع المقدسي, كما لم يرق لهم توظيف أساتذة يتخصصون في الأبحاث, أو أخرين يستدعي جذبهم أو تخصصهم أو ميزة لهم عقدا خاصا تميزهم ماليا عن نظرائهم الاسميين, و من هنا و في ظل القحط المالي الذي شهدته الجامعة نشأت مقاومة نقابية لها مبرراتها لسياسة الجامعة شكلت تحديا صعبا كان على إدارة الجامعة معالجته, و بالاغلب لم يكن ذلك ممكنا الا بالمسلك الديموقراطي وعن طريق الحوار و في بعض الأحيان التكاتف للضغط على السلطة من اجل تحصيل الدعم او حتى المخصصات المنظورة, لكن حالة عدم الاستقرار التي رافقت الإضرابات النقابية أثرت سلبا من جهة ثانية على قدرة الجامعة بشكل مستمر و متراكم لاستقطاب الاعداد و النوعيات الملائمة من الطلبة و الذين يشكلون مصدر دخل جزئي يساعد الجامعة في تصريف امورها, كما و أثر سلبا على تصريف الإدارة لشؤونها بشكل سلس.
 
من الواضح مما سبق ان ما أسميته سياسة الجامعة تصادمت مع مطالب و رؤى الموظفين فيها في محطات مختلفة أوجبت ان يكون هامش الحوار الذي ذكرت على أوسع وجه, و قامت الجامعة لأجل ذلك باستحداث آليات غير معهودة في الوطن لانجاح هذا الحوار بشكل ممأسس, فأضافت الى أنظمتها هيئتين قياديتين احداهما تنفيذية و هي هيئة الرئاسة المكونة من بعض أعضاء مجلس الجامعة و التي تجتمع دوريا للتأكد من تناسق الرؤى و السياسات في مجالات الإدارة المختلفة كالشؤون الاكاديمية و التخطيطية و الإدارية و غيرها, و لديها المجال للتوسع في نقاشات لا يمكن لضيق الوقت مناقشتها في اجتماعات المجلس الشهرية, و أما الهيئة الأخرى و هي حتى اللحظة استشارية و لكن يرجى تطويرها مع الخبرة و الزمن الى هيئة تنفيذية, هي هيئة المجالس التي تجتمع مرة او مرتين أثناء العام على مدار يومين يتم فيها بحث السياسات العامة و تبادل الدراسات ذات العلاقة بتطور الجامعة, و تضم هذه كافة المجالس الاكاديمية و الإدارية في الجامعة, الى جانب ممثلين عن الطلبة و النقابة, و تتشكل أمانة سرها من أعضاء قاموا  في سابق الوقت بوظائف إدارية قيادية, و يكون أمين سرها بحكم المنصب عضوا في هيئة الرئاسة و أيضا في مجلس الجامعة. أضف الى كل ذلك أن الجامعة اتاحت أيضا من خلال أنظمتها ان يكون ممثل النقابة وممثل اتحاد الطلبة أيضا أعضاء في مجلس الجامعة و في مجالسها الاكاديمية المختلفة. ان توسيع هامش المشاركة الممأسسة للعاملين في الجامعة لكي تتحول المصادمات بالرأي الى خلافات عقلانية لا شك انه خفف من حدة الخلافات و أسس لمساحة من حرية الرأي حافظت على تماسك الجامعة في خضم التجاذبات الحادة التي مرت بها, و قد تكون الخطوات التي اتخذتها جامعة القدس في هذا المجال نموذجا يمكن تطويره نحو وضع أسس أكثر ديموقراطية في الجامعات قد تساعد في الحفاظ عليها امام التجاذبات الداخلية الحادة التي قد تتفاقم في أيام مقبلة في ظل الوضع الاقتصادي المقيد الى جانب تقلص الدعم المالي الخارجي للبلاد عموما.
أما ومن جهة أخرى وبالنسبة لتلك الهيئة العليا و هي مجلس أمناء الجامعة فقد تم الحفاظ على علاقة عمل سلسة معه و يعقد جلساته عدة مرات سنويا أقلها أربع أجتماعات, يناقش فيها كافة الامور الحيوية و يستمع الى تقارير الإدارة و يتخذ القرارات كما هو منصوص عليه في النظام, و من اهم أدواره ان يكون صمام امان  لقانونية الإجراءات الاكاديمية و الإدارية التي تتخذها الإدارة, الى جانب توفير ما يتمكن أعضاؤه من توفيره لمساعدة الجامعة, و هنا فيجب الإشارة الى ان الدورالذي يتوقعه منه العاملون في الجامعات لتوفير الأموال كما هو الحال في بعض الجامعات الاجنبية يفوق بكثير قدرته على ذلك لعدة اعتبارات منها انتماء كثير من أعضائه لنفس تلك الفئة الاجتماعية التي ينتمي اليها العاملون انفسهم. لكن دورهم في ظروفنا السياسية لا ينحصر في تجنيد الدعم المالي و لكن يتعداه لتقديم الدعم في مجالات حيوية أخرى, كالعلاقات الخارجية مع السلطة او غيرها, و اسوق كمثال في هذا الشأن تمكين الجامعة من تسجيل أراضي الحرم الرئيس في أبو ديس كوقف لها أثناء مراحلها التأسيسية.
 
٤)آثر البيئة و التاريخ على إدارة ونوعية التعليم: آتي آخيرا الى تناول ما هو في اعتقادي الأهم من كل ما جاء و هو توضيح سبب اختيار عنوان هذه المداخلة: لبنة أخرى في الجدار, و ليس هذا هو جدار الفصل العنصري أو جدران الأبنية الحديثة التي أخذت جامعاتنا تتألق بها, بل هو عنوان أغنية قديمة ل فرقة بينك فلويد تنتقد سياسة الكبت الفكري و التبكيت الصناعي في المدارس – و اخترت هذا العنوان من حيث انطباقه بشكل ملحوظ باعتقادي على الوسط التعليمي في الجامعات لدينا, كامتداد طبيعي للوسط المدرسي و المجتمعي على حد سواء, و الذي بدوره يشكل امتدادا طبيعيا للبيئة التعليمية و الاجتماعية التاريخية التي نقف عليها,  فالحائط المشار اليه اذن ليس هو البناء و انما هو حاصل كافة تلك المعوقات أمام نمو سيادي للشعب الفلسطيني, و الذي انعكس في نظام تقليدي, قليل الثقة بنفسه ومنغلق على ذاته فيحد من نمو الجديد و المبدع في الفكر و المفكر و يجد نفسه مدفوعا لتكرير ذاته في مناهجه و أساليبه, أو مدفوعا لتحويل نفسه من بؤرة تربوية علمية لصقل المواطنة و تحرر العقل الى معمل يتم فيه تغليف الطالب كمنتوج صناعي لا يختلف عن مثيله الا عددا, فلا يفعل الأستاذ شيئا في نهاية الامرالا إعادة انتاج نفسه و لا تتحرك الجامعة قدما ولو قيد أنملة. و تنطبق هذه الثقافة التعليمية في علاقة الأستاذ بتلميذه على علاقة المسؤول بالاستاذ, بل و بالموظف الإداري بحيث لا تتاح الفرصة للأستاذ أو الموظف ان يبدع في عمله بسبب القيود الشكلية التي توضع عليه, و جميع تلك القيود نسخة لأنظمة المصانع و الشركات التي تحتسب الربح و الخسارة بالمقاييس المادية و ليس العلمية او الإبداعية, أو بمقاييس المنتوجات الاستهلاكية التي لا يستخرج منها ان استخرج شيء الا منتوجات استهلاكية غيرها و ليس من منظور الاستنبات الإنساني أي ذلك المواطن الذي يوجد و لا يقف عند ما يجد. حتى انها تنظر لما يسمى بالدوام كما لو كان دواما لأشباح او آليات جل فائدتها النقر على الازرار الحاسوبية لتحريك اليات غيرها في منظومة مغلقة. ليست الجامعات المحلية تماما بهذا الوصف لكن التجاذبات بين من يشد فيها الى هذا المنحى الصناعي و بين أخرين يشدونها نحو الابداع و التحرر طلبة كانوا في ساحتهم أو أساتذة في طموحاتهم أو موظفين في عملهم انما تختلط جميعا في مخاض عويص تخوضه جامعاتنا حاليا و تتأثر فيه من المحيط التعليمي و المجتمعي الاوسع من شأنه في نهاية الأمر صقل هوية المؤسسة المعنية, ان كانت تنحو منحى البحث و الابداع و التعليم المميز أو منحى التلقين التقليدي. مرة أخرى فالقيود المشار اليها ليست قيودا احتلالية لا يمكن التخلص منها الا بازالته, بل هي قيود فرضتها وتفرضها علينا بيئتنا المجتمعية و التعليمية نطوع انفسنا لها و يصلبها عدم الثقة بأنفسنا كقائمين على مؤسسة اكاديمية ليست كمثيلاتها في دول مستقرة بل هي أشبه ما تكون ممرا شائكا نحو تحرر المجتمع يستلزم ابتداع وسائل شجاعة و قد تكون غير معهودة لشقه, مسترشدين دوما في عملنا ذلك بهدف عتق العقل من القيود التي تكبله كالقيمة الأساس و العنصر الأساس للمشروع العلمي و ليس بالمعايير المالية أو الشكلية وان كانت الضرورة توجب ثانويا العناية بهذه الأخيرة.
 
قد يبدو كلامي الأخير هذا عاما الى درجة الغموض, و عليه فأريد أن انهي مداخلتي ببعض الأقتراحات الحية كأمثلة للاستنهاض الذي أعني, هي مختارات من حقول مختلفة, آملا ان تتضح صلتها بجملة ما قلت حتى الآن: و منها مثلا, على صعيد التواصل بين التعليم الجامعي و المدرسي, العمل على تشبيك كل جامعة بالمدارس المحيطة بها و ذلك من خلال أنشطة مختلفة كاستضافة طلبتها مع معلميهم للمكتبة الجامعية و للمختبرات و المحاضرات و كالتأسيس لاطار حواري مستمر بين الجامعة و تلك المدارس بهدف المنفعة المتبادلة و التي تشمل تهيئة الطالب المدرسي للتعليم الجامعي. و منها أيضا, على صعيد تأهيل الطالب الجديد للتعليم الجامعي, تخصيص فترة زمنية للطلبة الجدد قبل البدء في العام الاكاديمي يتم فيها إعطاء دورات خاصة تشجع الطالب على التفكير الحر من جهة و الاستماع لرأي الغير من جهة أخرى, و أشير هنا الى تجربة ناجحة في اللغة و التفكير بدأنا العمل فيها في جامعة القدس بالاستعانة بتجربة لجامعة بارد و هي الجامعة التي نتعاون و إياها في برامج مخصصة باللغة الانكليزية في حرمنا الجامعي في أبو ديس, و كانت بالنسبة لنا مدخلا آخر لتجاربنا المستمرة لتطوير الفكر الناقد في التحليل و التركيب. ثم هنالك أيضا أعادة التفكير بالتخصصات المنفردة و المتعددة, و عدم التردد من دمج تخصصات في العلوم الدقيقة مع غيرها في الانسانيات, ثم منها أيضا على صعيد الأبحاث مثلا انشاء دائرة خاصة للترجمة المتخصصة و تشجيع النشر لاولئك الأساتذة الذين لا يتمكنون من كتابة و نشر ابحاثهم في المجلات المحكمة العالمية, عوضا عن نشر تلك الأبحاث في المجلات البحثية العلمية التي تصدرها الجامعات المحلية أساسا بهدف الترقية. و منها أيضا تحديد سقف الساعات المعتمدة للأستاذ المساعد الجديد بحيث تبدأ بساعات تدريس معتمدة محدودة يتم تشجيع الأستاذ في الوقت المتبقي و بوسائل مختلفة منها الارشاد على نشر أبحاثه و قد يكون منها بدءا ما يستله من رسالته, أي يكون تعيينه جزئيا بمثابة باحث ما بعد الدكتوراة. وعلى صعيد التعليم أن يصار الى دورات حوارية مستمرة بين الأساتذة من مختلف التخصصات يتبادلون فيها تجاربهم و يطلعون على ما هو جديد في وسائل التربية. و على صعيد التعاون الجامعي ان يتم تشبيك و تبادل الأساتذة و البرامج و المكتبات –فتشترك المكتبات كافة في نظام حاسوبي موحد يمكن ان يصبح مستقبلا أساسا للمكتبة الوطنية, و على صعيد عام ان يصار الى ابتعاث الطلبة المميزين الى الخارج لتحصيل الشهادات العليا و توظيفهم عند عودتهم و توظيف كل فلسطيني أخر عائد و مؤهل ان لم يكن في جامعة بعينها أولا ففي بنك بشري تتعاون فيه الجامعات معا كمركز وطني مشترك بينها يقضي فيه الخريج وقتا في تطوير قدراته الاكاديمية البحثية منها و التعليمية الى ان يتم نقله الى ملاك جامعة او أخرى تحتاجه.
 
أدرك تماما أن بعض هذه الاقتراحات و غيرها قد يتطلب انفاقا لا تقدر الجامعات عليه, ولكن البعض الآخر مقدور عليه بالمتوفر من الميزانيات, ثم ان مجرد تشجيع حركة نهضوية و تجديدية قد يتفتق عنه أفكار جديدة يصب بعضها في عتق الجامعات من قيودها الداخلية.
 
و أما أخيرا و قد يكون هذا هو الأصعب على المستوى النفسي\الاجتماعي فما يتوجب علينا العمل على تحقيقه هو ان نطيع انفسنا لفتح أبواب التقدم لبعضنا البعض, حتى لا نعترض طريق بعضنا البعض في البيروقراطية التي نغلف فيها عدم ثقتنا بأنفسنا أو غيرتنا من غيرنا, أكان الغير قد تقدم بوظيفة في دائرتنا فأنحينا طلبه جانبا أو أتى بوصف لمساق أو برنامج  او مشروع لبحث أو منهج جديد في التدريس أو دعوة لحضور مؤتمر أو غير ذلك, فنخترع المبررات لانفسنا او لغيرنا بعدم وجود شاغر او حاجة لهذا الجديد, و في نهاية الامر فبرأيي ان تسخير كافة الامكانيات للفرد حتى لو كان فريدا قد يوقد تلك الشعلة التي من شأنها ان تضئ ما حولها.   
 
(مداخلة سري نسيبة في مؤتمر "مواطن" حول التعليم الذي عقد في جامعة بيرزيت بتاريخ ٣٠\٩)
 
*عنوان أغنية لفرقة بريطانية من ستينات القرن الماضي تنتقد الكبت و النظام المحافظ في التعليم المدرسي, و الذي يعيق نبوغ الطالب بدلا من فتح الآفاق الإبداعية له. و يعكس هذا النظام المدرسي النظام المحافظ في المجتمع الأوسع.