4 و 5 آذار - 2010 , باريس
القدس منجم حضاري، تؤدي أزقتها على سطح الأرض وأنفاقها الملتوية والمتعرجة من تحتها إلى أبنية أو متبقياتها أو فقط إلى آثار لها، تفيح جميعاً بعبق المقدس المجهول، أمكنة معلّقة في اللازمان، بين الأرض والسماء. فليست الصخرة التي كادت أن تلتصق بالرسول في معراجه وحدها معلقة، بل المدينة بما فيها مكسوّة بالمعلقات أينما نظرت، أو أحسست. فالمعبد والأسوار العتيقة والمبكى وطريق الآلام، كلها معلقة بين الأرض والسماء، تتجسد فيها النقائض، أو قل ذلك اللقاء اللامكاني بين الطبيعة وما وراءها، أو بين المسخّر للإنسان وذاك الذي يعجز أمامه، بين الماضي الغابر والحاضر الهالك والمستقبل اللامنظور.
والقدس إلى جانب تلك المعلقات اللازمانية، متخمة أيضاً بروائح البشرالغددية، الشرّاني منها طاغياً متسلطناً متدافعاً يسعى لطمس غيره، فتراه متمثلاً في آلة حفر تنخر في الحيطان العتيقة، تلهث لاستبدال الهالك باللامنظور، أو تراه متمثلاً في نمو عمراني يطمس ما تحته، شجرة كانت أم تثنية خاصرة هضبية، أو تراه متمثلاً في شكل أو صوت أو زيّ يتقمص ألوهية ما يسعى للهيمنة على تقمصات ألوهية أخرى.
وباستثناء ما ينيف عن ثلاثة عقود بقليل في القرن الأخير، أولها في مستهله، والأخريان في منتصفه، بقيت القدس تقبع تحت قبضة الغريب الأجنبي، أو قل الغريب الغربي. وأقول الغريب الأجنبي والغربي بالرغم من الجذور التوراتية، قديمها وحديثها، ما ظهر منها وما خفي، يهوديها ونصرانيها، ما أنكر منها وما أعترف به، في كل شبر من أشبار المدينة. فإن كان الماضي التراثي هو الموقع الطبيعي لتلك الجذور، فليس قابضها في الحاضر، ألنبيّاَ كان أم ديانياً، إلاّ كائناً غازياً حاول ويحاول زرع نفسه، إما فوق غيره، وإما مكانه بعد اقتلاعه، حجراً كان أم بشراً. فما يلبث أن يطلّ المواطن الطبيعي على بيئة المدينة حتى تبدأ بالتقلب أمام ناظريه، كمشهد استحوذه السحر، ينقلب من شكل استكانت النفس إليه إلى آخر، غريب الأصل، عنصري الطبع. فهي ليست مدينة المعلقات فحسب، ولكنها للمواطن الأصلي كائن عمراني استحوذته الأرواح الغريبة، فأخذت تعبث بشكله، حتى استحال من حضانة ُألف إلى فضاء رهبة.
ويضم هذا الكائن في ثناياه الخانقة بشراً لا تكاد تتبين من وجوههم، إذا كانوا تلك الأرواح الشهوانية التي تستوطن العمارات (العامورات) التصاقاً بالمادة السفلى من خلق الله. أم كانوا من صحابة المعلقات فعلاً. أتراهم من المسبّحين المقدسين الذين يتلمسون الماورائية بوجودهم المادي؟ أم تراهم من المتدينين السذج المحتفلين بسلطان استحواذهم لهذا المنجم الروحي؟ أم هم المنخدعين بأفضليتهم عند الخالق أو بإيمانهم بالنصر المبين؟ أم هم مجرد طفيليات تدافقت وتدافعت وراء منبع رزق دون أبه لدين أو نبي أو سلطان دينوي؟
من ذا الذي يحيا في أسطح المعلقات؟ ما هي هوية الإنسان، ومن هو، في ثنايا ومعرجات هذا الكائن الغريب؟ وكيف لنا، نحن الساعين لتلمس الحق، الطائفين حول أسوار المدينة، أن نستظهر الجميل من القبيح، فنقرر ما إذا كنا سنحتفل مع المحتفلين، أو نذرف الدموع مع الباكين، أم نتعاطف مع المستنكفين، بل كيف لنا أن نميّز بين أحدهم والآخر، فمن هو المخادع ومن هو الصدّيق؟ من هو الإنسان، ذا الذي نما وينمو بالطبيعة، كزيتون الطور أو صخر المكبّر، الذي إذا ما نظرت إليه فلا تكاد تميّزه عن ثنايا الصخور وأزقة التاريخ؟ أنستظهره بلونه أو دينه أو عرقه؟ أنتصفح هويته، كالجندي الدمية الذي يقضي حياته على حواجز التفرقة العنصرية؟ لنستطلع فيها ما إذا كان مسلماً أو عربياً، أو كان يحمل اسماً مطمئناً ليثوانياً، أو بولندياً أو اصفاردياً؟ من هم الصحابة حقاً؟ صحابة المعلقات الذين أتوا ليس لامتصاص شرايين الأرض بل للاستنشاق من روح المعلقات، من أتى المدينة المقدسة ليرفع من شأن روحانيته فيها؟ ومن منهم أتى ليقبض على روحها، فيفرض نفسه سلطاناً عليها؟
أتاها عمر، هكذا قيل، وبعض من الصحابة الذين نستل جذورنا منهم، أتاها، كما قيل، ماشياً على الأقدام، يتبادل الركب على الجمل مع غلامه، يا لهذا المشهد من مغزىً، تشرّبت به في طفولتنا وهماً كان أم حقاً شرايين مداركنا، فكأنه في الرواية يؤكد مقولتين، أولاهما وضاعة الإنسان مهما بلغ شأنه أمام هذه البقعة القدسية، فليست كغيرها تخضع للسيف أو المنجنيق، بل يطرق بابها خاشعاً، مسالماً، وثانيتهما فهي مساواة الإنسان مع أخيه الإنسان في المقياس الكوني، فلا توجد هنا تفرقة بين مقام إنساني رفيع، وآخر وضيع، بل الخليفة، أمام الخالق، كالغلام، يتساويان في إنسانيتهما، لا يفرّق بينهما لقب أو مقام أو وسام. فمسح بثوبه القمامة من على الصخرة، تلك المعلّقة بين السماء والأرض، والتي وضع آدم قدمه عليها أول ما هبط من الجنة وصعد منها الرسول إلى الحضرة الإلهية، ورمى بحجره بعيداً عن القيامة لتحديد موقع مجانب للكنيسة لإقامة صلاة المسلمين. وقيل أيضاً، من جملة ما قيل، كما ورد في وثائق الجنيزة، وعلى لسان أرباب اليهود أنفسهم، بأنه لم يعط الأمان للروم وكنائسهم فحسب، وإنما فتح أبواب المدينة لليهود، الذين كان البيزنطيون قد منعوهم من دخولها لبضع قرون!
فما أقصى البارحة عن اليوم، اليوم الذي يترقب الأقصى فيه كل لحظة أن تقع الكارثة الكبرى، وعلاماتها قد أصبحت أكثر وضوحاً، فيقتحمه الغزاة بغرض استبداله بما يحسبونه روعة عبادية أخرى، أقرّها من في السماء، وتحتضن في جوفها صخرة من تلطخت وقتئذ بدماء القرابين الجديدة، شهداء فلسطين الذين يذودون بمصفحات صدورهم العارية عن تلك البوابة التي تجسر ما بين الطبيعة وما وراءها.
وفي الأثناء، يستمر الغازي في فرض ذاته على المدينة، رامياً في تيه الصحراء أية فرصة لجعل جزئها المسلوب عام 67 عاصمة لدولة فلسطينية، فها هي سكة القطار الخفيف، فرنسي الصنع، تجتاح شطري المدينة، وهما شطران الآن، إن شرقاً أو غرباً، حلّ فيهما لون بشري واحد، هو لون الغزاة، فأي شرق للمدينة، أو غرب لها، يمكن لأحد أن يطرح تقاسمه الآن بين شعبين؟ وها هي الناطحات تحيط بالمدينة نفسها على مسطحات الأرض المصادرة، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، وها هو ذلك الحائط الأفعوي، يشطر ما بين القرى والعائلات، وها هو المقدسي المسكين، يدور تائهاً بين مربعات سكانية ُفصلت إحداها عن الأخرى، لتتيح المجال لربط المستوطنات ببعضها، وها هو يبحث عن لقمة عيش، أو عن سقف يحتمي فيه، أو عن ثقافة طبيعية تحضنه، أو عن لغة قومه، أو عن هوية.
ثلاثة وأربعون عاماً والمقدسي يئن تحت الاحتلال، ولا ننسى بقية القرن المشؤوم، ولا ننسى، حين نتكلم عن القدس، مجزرة دير ياسين، أو لفتا في جوارها والمهجّرة ديارها، أو البَقعة التي احتلها الأجنبي، فحلّ محل صاحبها، كما ولا ننسى أجدادنا، الذين ينوي الغزاة طمسهم تحت مجتمعهم التسامحي، وأجدادنا ليسوا مجرّد أوهام أو أرقام ...
سيداتي وسادتي،،
اسمحوا لي، في سياق الأجداد، أن أتحدث قليلاً عن الجزئيات، أو أن أنتقل من النظريات إلى واقع يومي، وأبدأ بجدّ لي هو القاضي برهان الدين، ابن نسيبة، الخزرجي، يرقد في القبة الكبكيّة في ما كانت تعرف "بمقبرة مأمن الله" وهي ليست مأمناً في إسرائيل حتى للأموات، وهو يرقد حيث يرقد الأمير الأيدغجي، منذ خمسمائة عام، بين أجداد آخرين لي ولغيري، وثقها جميعاً المؤرخ مجير الدين، معرّضة الآن للطمس من أجل بناء متحف للتسامح الإنساني، فها هي أظافر خصمي تخدش هويتي وشروشي الممتدة داخل وتحت الأرض، ليس وطنياً أو سياسياً فحسب، وإنما بشكل مباشر وعائلي. فكيف يتسامح ويسالم مع الأحياء من لا يستطيع أن يسالم ويتسامح مع الأموات؟
وأما الأحياء ... فحدّث ولا حرج، فهاك العائلات المهددة بالطرد من الشيخ جراح بذريعة أنها لا تمتلك منازلها التي أوت إليها، ولا يأمر القاضي الذي يحكم بالطرد، بإعادة هؤلاء المواطنين إلى منازلهم الأصلية التي هجروا منها في القدس الغربية، فما ُهجروا منه وأصبح إسرائيلياً في العام 48 قد دخل طي النسيان، وما استكانوا إليه في الشرقية ثم أصبح إسرائيلياً في ال67 يجب إخلاؤه الآن..!!
وفي حي الشيخ جراح نفسه الذي نتحدث عنه، وفي موقع يتوسط الفندق الفاخر الذي ُيعرف "بالأمريكان كولوني"، حيث ينزل وسيط السلام الأوروبي بلير، وموقع العائلات المهجّرة المهددة بالطرد مجدداً، يقع هيكل عمارة غير مكتملة البناء، أراد بانوها أن تصبح مركزاً ثقافياً إسلامياً، لكنها أضحت اليوم مليئة ببضع عشرات من العائلات المقدسية المشرّدة التي لجأت جميعاً هناك، خوفاً من أن تقوم الحكومة بسحب وثائق إقامتها في المدينة، ضمن ما أصبح يسمى "بحرب الهويات"! وما أدراك ما حرب الهويات ..
هي حرب بطاقة الهوية، يتمسك المقدسي بها تمسكه بتراب الأرض، فكل ما يمتلكه يأتي عبرها، ولا أعني التأمين الصحي أو الوطني، بل أعني ما يمتلكه المواطن من ممتلكات أو عقارات، وما ورثه عن أجداده، وما يحاول الإسرائيلي سلبه منه ليخلو له الجو، وليدخل تلك العقارات ويستملكها بحجة غياب أصحابها، وعدم قانونية تملكهم لها، لمجرّد أنهم ُأرغموا لإيجاد مأوى لهم خارج حدود البلدية، على بعد أمتار منها، لعدم توفر تراخيص البناء..
وللمقدسي الآن قصة أخرى، بجانب قصة بطاقة الهوية، هي بطاقة الجنسية، تائه هو بها، بين جنسية أردنية قد خلعت عنه بعد فك الارتباط مع الأردن، وجنسية إسرائيلية لا يرضاها لنفسه، وجنسية فلسطينية ممنوعة عنه بحكم الاتفاقيات السياسية التي أرجأت القدس للمفاوضات النهائية. فينتقل المقدسي في المطارات، وبين الدول، يحمل وثائق سفر لا إشارة فيها إلى وطن، بالرغم من وجوده على أرض وطنه، فهل يا ُترى يبقى المقدسي معلّقاً دون جنسية إلى ما شاء الله؟ متمسكاً بالأمل في الحرية والاستقلال الوطني؟
سيداتي وسادتي،،
كنت أعشق القدس يوماً، وأجدها جميلة تفوق بجمالها كل المدن، ولكنها آخذة بالتحوّل، آخذة بشرتها الجميلة بالاختفاء، زيتونها ولوزها وأزهارها وهضابها وحجارتها العتيقة، وحتى علاقات البشر ببعضهم، وتستبدل جميعاً بغطاء جديد، بغيض الشكل، قسري، أحادي، عدواني، يجعل من مجرّد التنفس فيها مقاومة! وأخشى ثم أخشى كل الخشية، أن تصبح القدس ذات يوم، كما حذر صاحب لي قد رحل هو فيصل الحسيني، كالثقب الأسود، تمتص في وهج نيرانها الممتصة إلى قاع جوفه، كل ما حولها، وتفنيه!