Books FullText

حرية الرأي - النقاط على الحروف

جريدة القدس- 19/12/1978

بقلم الدكتور سري نسيبه

الدكتور موسى البديري

نريد ان نؤكد قبل كل شي ان قضيتنا ليست قضية الدفاع عن معتقدات معينه او مهاجمتها او الدفاع عن اسلوب معين في التكلم او مهاجمته، بل هي قضية الدفاع عن مبدأ حرية الافصاح عن الرأي، مهما كان مضمون ذلك الرأي، وبالتالي فهي قضية بناء المجتمع القائم على احترام العقل، لا على الكبت الفكري، وبالاخص ليس ذلك الكبت الذي تقمص شعار الدين، والذي يبعث الرعب في قلوب النفس، بدلا من ان يحاول اقناعهم عن طريق العقل والمنطق

وانطلاقا من هذه القاعدة نرى من الواجب اولا ان نضع النقاط على الحروف في مقالة عبد الرزاق زلوم لنميز الصواب عن الخطأ، والمنطق عن غير المنطق، ثم ان نبدي بعض الملاحظات حول ما جاء في مقال فضيلة الشيخ عكرمة صبري عن هذا الموضوع، واخيرا ان نرد على النقاط الموضوعيه في مقال محمود عوض عباس

بالنسبه لما جاء في مقال السيد زلوم فقد استطعنا، وبعد جهد، ان نستخلص اربع نقاط موضوعيه في ما قاله، من الممكن تجزئتها الى ثلاث مقدمات ونتيجة، نوردها كالاتي:

•  تنتهي حرية الفرد حيث تبدا حرية الاخرين "ويعني بذلك ان حرية الفرد لا تسمح بالتعدي على حقوق الاخرين".

•  المساس بشعور الاخرين غير مقبول.

•  الحرية لا تجيز العمل الذي يؤذي الاخرين.

•  ان قبول مبدأ حرية التفكير لا يلزم قبول مبدأ حرية الافصاح عن الرأي.

والنتيجة المتلخصة بالنقطة الرابعة هي التي تنفي المبدأ الذي اكدناه والقائل بان حرية التفكير تلزم حرية الافصاح عن الرأي. فلننظر الان لنرى ان كانت المقدمات التي اوردها السيد زلوم تلزم بالفعل النتيجة التي يريد التوصل اليها "والتي يريد التوصل اليها ايضا فضيلة الشيخ عكرمة ومحمود عباس.

بالنسبة للنقطة الثالثة، والتي يعبر عنها بقوله ان الحرية لا تعني حرية العمل فيما يؤذي الاخرين – كصوت المذياع الذي اورده مثلا عليها – فان هذه النقطة خارجة عن نطاق الموضوع، اذ اننا نمير بين حرية الكلام وحرية العمل، ونحن اكدنا قبولنا للحرية الاولى فقط وبالتالي، فان صحة هذه المقدمة لا تساعد منطقيا على التوصل الى النقطة الرابعة. اذ ان هذه النقطة تتكلم عن افصاح الرأي بينما تتكلم المقدمة عن حرية القيام بالاعمال.

وبالنسبه للنقطتين المتبقيتين فانهما وبعد اعادة صياغتهما، قد يوصلان الكاتب الى النتيجة المرغوب فيها، فنحن ان حددنا حقوق الفرد "او حريته" بالقول ان هذه الحقوق تتضمن عدم المساس بشعوره، فانه يتبع ذلك ان اي مساس بشعوره، حتى ولو كان ناتجا عن قول وليس عن عمل، سوف يكون فعلا بمثابة اعتداء على حقوقه، وبالتالي يكون الكاتب قد نجح بالتوصل الى نتيجته.

الا انه من غير المعقول ان يقر احد بالمبدأ القائل ان كل مس بشعور الاخرين يجب ان يعتبر وكانه اعتدى على حقوقهم. فقد يمس المرئ بشعوره حينما ينتقص من حقوقه ولكنه قد يمس بشعوره ايضا حتى ولو لم ينتقص من حقوقه شيئا. وبالتالي فان المس بالشعور ليس هو المقايس بل المقياس في ذلك هو العلة التي سببت المس بالشعور، ولا نستطيع ان نعتبر المس بالشعور الا ظاهرة علينا انت نتحقق علتها ، والا، فلا نكون هنالك نهاية للملحوقين.

واذ لا يوجد هنالك نلازم بين حق الفرد ومجرد المس بشعوره، فمن غير المعقول ان نقر نتيجة الكاتب على اساس المقدمتين اللتين اوردهما اما مجرد ان يجزم هو بان حرية التفكير لا تلزم حرية الافصاح عن هذا التفكير، فليس هذا الجزم بحجة وبالتالي فان هذا الجزم غير مقنع وبايجاز، فاننا نعتقد انه اما ان يكون هذا المنطق غير جازم، واما ان يكون هذا الجزم غير منطقي.

لقد تطرق فضيلة الشيخ عكرمة في مقاله لموضوع الالتزام الذي تكلمنا عنه بين حرية التفكير وحرية الافصاح عن الرأي، فقال انه لا يجد الزاما بين هاتين الحريتين، وعلل ذلك بقوله ان الانسان يفكر باشياء كثيره، واقعية وخيالية، ولكنه ليس من في هذا التعليل ما يقنعنا، اذ ليس المطلوب هو ان يبدي المرء رأيه بالفعل في كل ما يفكر به، وليس هذا بالتالي هو اساس التلازم الذي تكلمنا عنه، بل المطلوب هو ان تكون له الحرية في ان يبدي رايه او ان لا يبديه، وان يستطيع ابداء رأيه بدون استحقاق العقاب

اما السيد محمود عباس فلقد حاول انتقاد مبدأنا من وجهة نظر اخرى، انه لا يريد ان يضيع قيودا على حرية الافصاح عن الرأي فحسب، بل يريد ان يتجاوز ذلك لوضع قيود على حرية التفكير، معللا ذلك بقوله ان هناك اسسا سليمة وصالحة هي التي تحدد ما يحق للمرء ان يفكر به ومع انه لم يحدد ما هي تلك الاسس، الا اننا قد نستطيع استقراء ماهيتها من القيود التي وضعها على حرية الافصاح، فان هذه الاخيرة تضمن عدم المساس بشعور الاخرين، وبالتالي، فقد تكون الاسس السليمة التي يريدها لتحديد حرية الفكر هي التي تضمن ان تكون الافكار نفسها ليست قادره على ان تمس شعور الاخرين، في حالة الافصاح عنها بذلك تكون اسس التفكير السليم مستمدة من اسس التعبير السليم، كما يعبر هو عنها.

ونحن نجد ان لب هذا الانتقاد الذي وجهه الينا السيد عباس يتلخص في نقطتين، احداهما اعتبار المس بشعور الاخرين بمثابة اعتداء على حقوقهم – وقد بينا وجه الخطأ في هذا الاعتبار في جوابنا للسيد زلوم – والاخرى هي ان هنالك حدودا لحرية التفكير من الاساس، وبالتالي فان هنالك حدودا لحرية الافصاح عن التفكير. واما ماهي هذه الحدود، فهي الحدود التي تمنع الفرد من اي يفكر باراء قد يؤذي الاخرين بها ان افصح عنها، او التي تمنعه من الافصاح عن اراء قد يمس شعور الاخرين بها.

ولنربط هذه النقطة بنقطة اخرى افصح فضيلة الشيح عكرمة عنها، فمما يقال هنا ان القيم والعقائد تختلف من مجتمع الى اخر، ومن فلسفة الى اخرى، وان ما يعتبر مستحقا للمدح في احداها قد يعتبر مستحقا للذم في سواها، وبالتالي فان حرية الرأي في اي مجتمع مربوطة بقيم وعقائد ذلك المجتمع "او بقيم وعقائد تلك الفلسفة" مستمدة منها ومن الواجب الا تتعدها وان ربطنا هذه النقطة بقضية المس بالشعور نجد ان المرغوب فيه عند نقادنا ان تتقيد حرية التفكير "عند السيد عباس" وحرية الافصاح عن الرأي "عندهم جميعا" بعقائد وقيم المجتمعات المختلفة، اذ كل ما يخالف تلك العقائد والقيم سوف يمس بشعور افراد ذلك المجتمع.

وما نستغربه في هذا المنطق هو الالتباس الواقع بين الموجود والمستحسن، فكانه يقال لنا: ماهو موجود في مجتمع معين، فهو المتسحسن في ذلك المجتمع، وبالتالي، فانه يجب علينا وضع قيود على تلك الاراء التي تنتقد ماهو موجود بالمجتمع اذ انها تنتقد ماهو المتسحسن وتمس بمشاعر الناس في الوقت نفسه. الا اننا نجد فرقا بين الموجود والمستحسن، فليس كل شىء مستحسن وجوده هو بالفعل موجود وليس كل شىء موجود مستحسن بالفعل وجوده والفرق بين الموجود والمستحسن هو الذي يفسر التطور من الاسوأ الى الافضل، وان لم تكن لدينا حرية الافصاح عن الرأي بحجة ان هذه الاراء تخالف ماهو موجود، فلن يكون من الممكن ان نساعد في تطوير مجتمعنا من الاسوأ الى الافضل. واما ان ل تكن لدينا حتى حرية الفكر عن تلك الاراء التي قد تخالف ماهو موجودن والتي قد تؤذي مشاعر الناس ان افصح عنها، فسوف نكون بمثابة الات "سليمة العقل حسب رأي السيد عباس" قد استؤصلت من دماغها تلك الاقسام التي تحثها على التفكير المستقل الحر، بحجة ان تلك الاجزاء الدماغيه، قد سببت لنا مرض العقل، اذ انها لم تكن متوافقة مع الاسس السليمة الصحيحة للتفكير، والتي قام باكتشافها السيد عباس بعد تفكير سليم وصحيح!

بايجاز، فان وضع قيود على حرية الافصاح عن الرأي يشكل وضع قيود على التطور من الاسوأ للافضل ووضع قيود على حرية التفكير يشكل وضع قيود حتى على امكانية التطور.

ولنكرر ما قلناه في مقالنا الاول حول هذا الموضوع، لعل وقعه الان يكون اكثر وضوحا: ان محك مبدأ حرية الافصاح عن الرأي هو تطبيق هذا المبدأ على ذوي الاراء المخالفة لقيم وعقائد المجتمع وهذا المبدأ لن يعني شيئا ان استثنينا منه اولئك الاشخاص الذين يخالفوننا الرأي وطبقناه فقط على اؤلئك الاشخاص يوافقوننا الرأي، ولن نستطيع ابدا تقييم افكار الناس ما لم نعطهم الحق المطلق والكامل لابداء ارائهم كما لن نستطيع ابدا ان نطور انفسنا لما هو افضل ان لم نميز ما بين الموجود والمستحسن، وان لم نستطع وبدون ان تقطع رقابنا، ان نرفع اعيننا فوق قيم وعقائد و تقاليد مجتمعنا، ايا كان هذا المجتمع، وان ننظر لما هو افضل، وان نطرح نظرتنا هذه للحوار، لنستطيع من خلاله ان نقيم، سويا وبهدوء وواقعية، رؤيتنا هذه.