في ذكرى السرطاوي

جريدة الفجر-12/4/1984

نص الكلمة التي ألقاها الدكتور سري نسيبة في حفل تأبين الشهيد عصام السرطاوي الذي عقد يوم أمس الأول في تل أبيب.

إنها لمناسبة حزينة أننا لا نحيي فقط ذكرى ضربة قاتلة وجهت لرجل سلام شريف وطني، فذلك وحده ما يكفي من الحزن في حد ذاته لكننا نحيي كذلك مناسبة حزينة أصبحت رمزا، نحيي

ذكرى جرح عميق أصاب جزءا ضعيفا ومتنافرا، وغالبا ما نميل إلى نسيانه، من تاريخ المواجهة الشاملة بين شعبينا. واعني بذلك العنصر الإنساني، والمحاولة الشجاعة للتطلع إلى ما وراء المعاناة، وما وراء البشاعة الراهنة للوضع الإنساني في الصراع العربي الإسرائيلي، لنرى، وراء ذلك كله، منظرا هادئا يسوده العدل والمصالحة الإنسانية.

انه لمن المحزن أن يكون السرطاوي قد مات، لكن ما يبعث على مزيد من الحزن الاعتقاد أن كفاحة من اجل السلام كان مجرد كفاح في فراغ، وفي عالم الأحلام، ورحلة لا هدف لها في عالم الأوهام، عالم فيه نتخيل طواحين الهواء أعداء، والمغفلين أصدقاء.

غير أن محاولات السرطاوي لم تكن دون جدوى، كما أنها لم تكن خادعة. وسواء أكان هو وغيره يدركون أم لا فان محاولاته كانت في الحقيقة تنسجم تماما وبشكل طبيعي ومعقول مع عملية محتومة جارية للجمع والربط بين شعبين أصبح مصيرهما متداخل لا محالة، سواء كان ذلك للأفضل ام للاسوا، شعبان لابد وان يتقبل الواحد منهما الآخر، كمواطنين زملاء في دولة واحدة، او كأنداد في دولتين متجاورتين، أو بأي شكل آخر مشترك في ارض أجدادهم، يهودا أو غير يهود، من اصل بابلي أو فلسطيني، أو مهما كان أصلهم، سواء كانوا من ذرية إبراهيم أو (افرون الحيتي )

إن محاولات السرطاوي المتقدمة كانت طبيعية ومعقولة لأنها كانت مجرد توقع للمراحل النهائية للحرب الطويلة للفلسطينيين المحدثين.. وهي حرب بدأت قبل سنوات طويلة ربما عام 1917، أي مع صدور وعد بلفور. ومنذ ذلك الوقت ولفترة تزيد على 65 عاما ظل الفلسطينيون منشغلين بكفاحهم الوطني ... فحاربوا ضد تخلفهم، وضد الفوضى التي دبت في صفوفهم، وضد أصدقائهم وأعدائهم على السواء.

وشيدوا مؤسساتهم الممثلة وعقدوا مؤتمراتهم الوطنية ابتداء بأول مؤتمر فلسطيني عقد في شهر آذار عام 1919 في القدس، وأسسوا قواتهم المقاتلة، ووطدوا شخصيتهم الوطنية المستقلة على خارطة العالم السياسية، وصمدوا في وجه التكنولوجيا المتقدمة للقوات الإسرائيلية المسلحة، وأنتجوا تراثا شعبيا وطنيا خاصا بهم، كما خرج من بينهم كتاب الرواية والشعراء والأبطال، وصمدوا كذلك أمام التمييز الذي مارسه ضدهم إخوتهم العرب، وتمسكوا بأرضهم بأيد عزلاء، وعرضوا صدورهم البريئة لرصاص الجيش وعانوا التعذيب والإذلال في السجون الإسرائيلية والعربية وزنزانات التحقيق وجابوا أرجاء العالم كالفارين، وكثيرا ما انسلوا عبر الحدود لعدم توفر تأشيرات مرور مقبولة أو جوازات سفر لديهم وزحف الفلسطينيون على أيديهم وركبهم ليشقوا طريقهم الوعرة عبر الأشواك المؤلمة للدسائس والفشل والإحباط والتضحية والتعاسة والمذابح. وحارب الفلسطينيون وتظاهروا وباعوا خدماتهم وإنتاج عقولهم وخبرتهم؟ وضحوا بأرواحهم ووقفوا ضحايا في لشبونة وفي نابلس.

وقدر السرطاوي ان حرب الفلسطينيين الطويلة لا بد وان تقترب من نهايتها بعد أن أصبح العالم كافة يعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. وبقي الآن أن تتفق إسرائيل على ما يراه العالم كله وان تقبل بالأماني المشروعة للشعب الفلسطيني ومنها حقه في السيادة والحرية والاستقلال في دولة خاصة به على ترابه الوطني. وبدا السرطاوي، وهو يفكر بهذه المرحلة النهائية، يقيم اتصالات مع إسرائيليين، لتمهيد الطريق من خلال الحوار والتعامل الإنساني المباشر، للوصول إلى اليوم النهائي الذي يحل فيه السلام والمصالحة.

أما الوجه الآخر للدولة الفلسطينية ذات السيادة والاستقلال فهو ليس فقط القبول نظريا في المرحلة النهائية بإسرائيل والصهيونية بل قبولهما فورا وبشكل علمي وفي الدورة السادسة عشرة في العام الماضي للمجلس الوطني الفلسطيني، قبل المجلس بخطة مؤتمر قمة فاس لتقسيم فلسطين كما رحب المجلس باقتراحات بريجنيف للسلام التي تقضي صراحة وتؤيد التعايش بين إسرائيل ودولة فلسطينية مستقلة، إن قبول المجلس الوطني الفلسطيني لهذه الخطط السلمية يشكل فقرة فكرية في التفكير الوطني الفلسطيني، وهو بلورة جريئة وتقدمية لأفكار بدأت تتخذ شكلا لها عام 1974، عندما أيد المجلس الوطني الفلسطيني البرنامج السياسي المرحلي ويدل كذلك بوضوح على استعداد منظمة التحرير الفلسطينية على أعلى مستوياتها التشريعية أن تواجه الواقع، لكن ليس على حساب الكرامة الوطنية الفلسطينية.

لكن ارتكب المجلس الوطني الفلسطيني خطا جسيما عندما اخفق في تزويد هذه القفزة الفكرية الشجاعة بأداة وظيفية، فقد أحجم المجلس عن تأييد الاتصالات الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية مع الصهيونيين، حتى عندما كان من الواضح أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل تتطلب إقامة اتصالات مع المؤسسة الصهيونية في إسرائيل. وهكذا بقيت اتصالات وحوار منظمة التحرير الرسمي مع الصهيونيين أمرا محرما، وحتى لقاءات عرفات مع الصهيونيين التقدميين كانت تعتبر تجاوزا لأنظمة المجلس الوطني الفلسطيني، ودليلا على السلوك السياسي " المنحرف ".

تلك كانت هي البذور البينة للتناقض بين النظرية والعلمية والفجوة في الموقف الفلسطيني التي من خلالها نفذت الرصاصة التي أودت بحياة السرطاوي.

وفي نفس الدورة السادسة عشرة إياها للمجلس الوطني الفلسطيني، أجيزت القرارات التي تؤكد أن منظمة التحرير الفلسطينية هي المتحدث الوحيد باسم الفلسطينيين، وانه ما من طرف آخر يملك حق التفاوض نيابة عنهم، وكانت المؤشرات واضحة، إذ رغبت منظمة التحرير الفلسطينية نفسها أن تكون طرفا في أية مفاوضات مع إسرائيل، ولم ترغب المنظمة في أن يكون الأردن متحدثا نيابة عن منظمة التحرير الفلسطينية. ومع ذلك ففي حين أصر المجلس الوطني الفلسطيني على نفس الخط تأذي انتهجه السرطاوي إلا انه أجفل من إضفاء الشرعية على وسائل متابعة هذا الخط وإضفاء الشرعية على جهوده الشجاعة إنها معضلة بين السبل والغايات في حلبة السياسة الفلسطينية المعاصرة ولا بد من إصلاح هذا الأمر.

لكن ما الذي سيحدث بعد ذلك؟

إن الكثير يقع في متناول يد إسرائيل، خاصة عندما تنتهي الانتخابات، فستجد إسرائيل أن عليها أن تمر في اختبار عسير، ربما كان أكثر الاختبارات التاريخية أهمية، والتي واجهتها إسرائيل منذ نشأتها. سيكون على إسرائيل أن تقرر ما إذا كانت ستشق طريقها بقوة لكن دون تبصر، في مستقبل لا بد وان يكون مظلما ومشحونا بالإخطار، أم أنها ستدرك الواقع العربي الذي تعيش فيه، وفي مقدمته العنصر الوطني الفلسطيني في هذا الواقع وبذا تضمن لنفسها وللفلسطينيين وجودا مستقرا وكريما.

لم يعد من المجدي التشدق بالسلام، فقد ولى زمن البهلوانيات السياسية، والمناورات وبالونات التجارب إن الإشارات التي صدرت عن بيريس للأردن، مع ما صحبها من رفضه المعلن لمنظمة التحرير كشريك في المفاوضات المحتملة لا تحتوي تلك الإشارات على ذرة من المصداقية، يمكن لبيريس أن يعمل سلاما مع الأردن. لكن إسرائيل لم تدخل في حرب مع الأردن في لبنان.

وليس الشعب الأردني هو الأسير في الأراضي المحتلة.

إن الفلسطينيين، من خلال مؤسساتهم الممثلة الشرعية هم المتورطون في حرب طويلة من اجل التحرر الوطني والاستقلال وليس الأردن.

وان بريس يدرك هذا الأمر، كما يدركة ملايين الناس غيره في المنطقة والخارج.

فإذا كانت إسرائيل لا ترغب في مجرد التشدق بالسلام وإذا كانت إسرائيل لا ترغب في مجرد المراوغة، بل كانت ترغب في السعي لإحلال سلام حقيقي عادل فان عليها أن تطرح على منظمة التحرير تحديا مباشر للسلام. فلتكسب محاولات السرطاوي وليكسب أصدقاؤه مصداقية وقوة، وربما كان تحدي السلام الواضح المباشر هذا، والمطلوب طرحة أمام منظمة التحرير، سيجعل بامكان المجلس الوطني الفلسطيني، عندما ينعقد في الشهر القادم كما هو مقرر، أن يرد بالمثل على تحدي السلام هذا، وبذا يثبت الطرفان أن الدم الفلسطيني والإسرائيلي الذي أريق لم يذهب سدى .

وشكرا