Books FullText

كيف تكون لك الغلبة وأنت المغلوب على أمرك

  صحيفة القدس 16\11\2002

أثناء النقاش الجانبي الذي دار في اجتماع القيادة في الأسبوع الماضي حول الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، قمت بالتأكيد على أن نجاح قيادة إسرائيلية يمينية في هذه الانتخابات سوف يعني، بعد تأجيل المفاوضات إلى ما بعد انتخابات جديدة قد تتمخض عنها حكومة

إسرائيلية محتملة أخرى، أن شروط المفاوضات للقبول بحل آنذاك سوف تكون أكثر صعوبة مما عليه الآن وبالتالي فإنه إذا افترضنا إننا نريد حلاً فالتفاوض اليوم مع حكومة سلام إسرائيلية أفضل بكثير من التفاوض مع مثل هاته الحكومة بعد أربعة أعوام. مما يعني أنه من مصلحتنا كفلسطينيين أن تتمحض الانتخابات المقبلة عن حكومة سلام إسرائيلية وليس حكومة يمين متطرف.

 فإذا ما قبلنا بهذا التشخيص فمن اليقين أنه يتوجب علينا، ومن باب المصلحة الفلسطينية العليا أن نجعل من أنفسنا عنصر تأثير إيجابي لانجاح حكومة سلام إسرائيلية في الانتخابات المقبلة بدلاً من انتهاج سياسة عدم الاكتراث وعدم محاولة التأثير، أو سياسة التأثير السلبي. إذ أن كليّ السياستين الأخيرتين من شأنهما إلحاق الضرر، بدرجات متفاوتة، بالمصلحة الفلسطينية (على افتراض أننا نريد حلاً).

 أما بالنسبة للسؤال فيما إذا كان بالإمكان إنجاح حكومة سلام إسرائيلية، فإن الأمر يتوقف على الناخب الإسرائيلي، أو رجل الشارع الإسرائيلي، وخاصة ذلك الناخب الذي يتأرجح بين إعطاء صوته لليمين انطلاقاً من شعوره بالقلق الأمني الشخصي وتشككاً بإمكانية إقامة سلام مع الفلسطينيين، أو إعطاء صوته لليسار انطلاقاً من اعتقاده بأن السلام الحقيقي مع الفلسطينيين ممكناً، وأن هذا هو الطريق لتحقيق أمنه الشخصي، أن هذا الصوت المتأرجح هو الحاسم ما بين ترجيح كفة اليمين المتطرف في الحكومة القادمة، أو ترجيح كفه الوسط/ اليسار. وهذا هو الصوت الذي يجب إذن أن نستهدفه للتأثير الإيجابي في السياسة الفلسطينية.

 إن التأثير سلباً على هذا الصوت بمعيار المصلحة الفلسطينية العليا ينتج من رفع وتيرة القلق الأمني لدى الناخب عن طريق أفعال أو أقوال تصدر عن الجانب الفلسطيني، كالأقوال الداعية إلى التصادم الوجودي مع إسرائيل، أو الأفعال العنيفة ضد المدنيين، وبالعكس فإن التأثير إيجاباً ينتج من أقوال تدعو إلى السلام الاستراتيجي والحقيقي مع إسرائيل، والامتناع عن القيام بتلك الأفعال التي تتسم بالعنف، مع الاحتفاظ طبعاً بحق الشعب في الاستمرار في النضال من أجل تحقيق حريته واستقلاله.

قد يتساءل سائل، كيف يمكن أن نجعل خطابنا سلمياً والشعب الفلسطيني يرزح تحت وطأة العنف الإسرائيلي الذي يطال كل فلسطيني من امرأة وطفل وشيخ؟ كيف يمكن ضبط النفس وكظم الغيظ وكبت الغضب في ظل أجواء يألم فيها الشعب الفلسطيني، وينـزف، وقد فقد ثقته بالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، التي ردّت غصن الزيتون الذي ارتفع أيام مدريد بمزيد من الدبابات والمصادرات والمستوطنات؟ ثم يردف ويقال، ولماذا نبادر نحن وكأننا بذلك نتنازل لهم أو نبدي لهم الضعف؟بل دعهم يبدءون، ثم نتفاعل إيجاباً مع مبادراتهم وأفعالهم هم.

 والرد على السؤال بسيط ومعقد معاً، وفيه سر الغلبة للمغلوب على أمره. فهو بسيط لأننا نحن الجهة المعنية أصلاً بمصلحتنا العليا، والتي كما رأينا تستوجب منطقيا هذا المنحى من الفعل السياسي، حتى وأن لم يكونوا هم معنيين. وهو معقّد لان كبت الغضب يحتاج إلى إرادة صلبة وجهاد نفسي حقيقي، ترغم العاطفة على الإذعان للعقل. نحن إذن الذين يجب أن نعمل جاهدين لكسب الناخب الإسرائيلي إلى جانب السلام، ولسان حالنا يقول: دعنا نكسبهم إلى جانبنا، لا أن نكسب عليهم، هكذا تكون لنا الغلبة وان كنا المغلوبين على امرنا (أي الضحية الحقيقية) في ظل هذا القهر.

ان من رسائل استقطاب الناخب الإسرائيلي إعطاءه الثقة بوجود رؤية لسلام حقيقي بين الطرفين، ووجود شريك في الطرف الفلسطيني يمكنه تحقيق هذا السلام معه، وليس ثمة رؤية لسلام حقيقي بين الطرفين، تُشعره بان الطرف الآخر قد سلّم فعلا بوجوده، واعترف له بدولته، أكثر إيقاعاً في الشارع الإسرائيلي من تأييد الرؤية التي طرح عامي ايالون عناصرها في جريدة "القدس" بتاريخ 25/10/2002، والتي كما أكد تعرض على الفلسطيني 100% من الأراضي التي احتلت عام 67، مع تبادلات متساوية كما ونوعاً متفقاً عليها، وتتكلم عن القدس العربية (وليس فقط عن ضواحيها) كعاصمة للدولة الفلسطينية، وإخلاء كامل للمستوطنين، وحل واقعي للاجئين يتضمن التعويض، والعودة إلى تراب الوطن في إطار الدولة الفلسطينية، إلى جانب جمع شمل العائلات داخل إسرائيل. إن القوة السياسية التي تتمتع فيها هذه الرؤية تكمن في كونها، ليست فقط عنصراً ايجابياً فاعلاً في الشارع الإسرائيلي إذا ما أتت بتأييد فلسطيني، وإنما في كونها أيضا متوافقة مع المصلحة الفلسطينية العليا في حال تطبيقها على ارض الواقع.

 قد يقال مع ذلك ولِمَ نتنازل لهم مسبقا عن أمور قد نكون نحن مبدئياً مستعدين للتنازل عنها ولكن في ظل مفاوضات نحصل ماديا منها على المقابل؟ أي، قد يقال فلندع الأمور غامضة بعض الشيء، وخاصة في تلك الأمور الحساسة، ولنجعلها واضحة فقط بالعموميات. والرّد على هذا برد الأمور إلى أصلها: إذا كان الهدف هو زرع الثقة وإكساب حكومة سلام إسرائيلية نتمكن على أثرها من تحقيق مصلحتنا العليا، فنكون قد حققنا هذا الهدف إذا ما دفعنا بالناخب الإسرائيلي لإنجاح حكومة سلام تكون على استعداد للتفاوض معنا على قاعدة تلك العناصر التي تحدث ايالون عنها. فالوضوح والتحديد إذن، وخاصة في ظل ظروف العامين الأخيرين، تستوجب منا القول بكل صراحة بأننا على استعداد للاعتراف حقيقة لكم بدولتكم، والتسليم فعلاً بوجودكم، ونحن لا نحاول خداعكم في هذا الأمر، لكن السلام والأمن منوطان بكم، وبقبولكم لهذا الرؤية التي تضمن لنا بالمقابل الحرية والاستقلال والكرامة.

 وأخيراً، فإنني إذ كنت قد توجهت بهذا الكلام سابقاً وفي أكثر من مناسبة خلال العامين الأخيرين، فإنني أعود للتأكيد عليه في الوضع الراهن، تحملاً لمسؤوليتي بالدرجة الأولى كمواطن فلسطيني يشهد ما يشهده، ويشعر ما يشعره، ويعقل ما يعقله، متخوفاً من أن لا يقود الطريق الآخر إلا إلى الهلاك والنـزيف المستمر للطرفين، سواء بسواء.