( رئيس جامعة القدس وزميل زائر في مركز رادكليف في جامعة هارفارد)
اقترنت مأساة فلسطين بمأساة العالم العربي والمواجهة مع إسرائيل بتحجر اقتصاده و مؤسساته وبتردي أوضاع شعوبه؛ بل وأصبح البعض (من كلا الطرفين) ينظر إلى هذا الصراع وكأنه مجرد القمة الظاهرة لجبل جليدي صلب يمتد اتساعا كلما أزداد عمقا، و يعكس صراعا حضاريا وجوديا وحتميا بين حضارتين متناحرتين هما الإسلام والغرب؛ الأمر الذي يدفعنا إلى طرح تساؤل غير مسبوق بل ومغيظ وهو هل
يا ترى من الممكن والأفضل عربياً وإسلامياً قلب الصورة أو المعادلة رأساً على عقب؟أي أن نجعل ألقمة المشار إليها قاعدة لبناء هرمي معكوس، بحيث تصبح العلاقة مع إسرائيل نقطة انطلاق لمشروع نهضوي عربي لإزالة المأساة أو آثارها و إزالة أسباب التحجر وتجلياته في المجتمع؟ وهل يمكن أن تصبح العلاقة الإسرائيلية-الفلسطينية ( في حال إعادة صياغتها من السلب إلى الإيجاب ) حجر الأساس في بنيان شبكة واسعة من العلاقات المثمرة علمياً وفكرياً واقتصادياً بين الشرق العربي–الإسلامي والغرب، وتصبح فيه إسرائيل جسرا للحوار و التقارب الحضاري بدلاً من الخنجر المدمي والمنـزف للطاقات كما هو الحال ؟ أم هل أن التوقف عند جير ألمّ بماضينا والسعي لإحالته عدلا أي محوه من الوجود أصلا وإعادة الماضي إلى حاله ألأوّل هو الأفضل (أو الممكن)؟
هنالك من جهة دعوة صارخة متأججة لعدم الإستكانة أو الإستسلام و لإستمرار المواجهة والقتال بل ولنشر ساحة المعركة كي تصبح مواجهة صريحة وعنيفة مع الغرب وحضارته وذلك حتى إجتثاث مصدر المرض المتفشي في أوصال المجتمع، أي ذلك الكيان الغريب المزروع قسراً في الجسم العربي بهدف استنـزافه، ثم هنالك من جهة أخرى دعوة مترددة خجلة للرضوخ لواقع أليم لأن ليس في اليد حيلة ولأن توازن القوى إقليمياً ودولياً يفرض ما لا يرغب. وتجد أصوات الأولى بالأغلب رائجة في الشارع العربي، يغذيها مثقفوا وسياسيوا وشعراء ذلك الوسط الجماهيري، (و يكاد بعضهم أن يستحق تسمية شعراء البلاط الجدد، بما يتغنون به للجمهور بغية إرضائه) بينما بالكاد تلتقط أصوات الأخرى في أروقة الحكومات الرسمية، ووراء الأبواب المغلقة (وقد تجد بعضهم مدفوعاً لحماية منصبه أو نظامه)؛ لكن السؤال المغيظ يبقى وهو هل أن كلتا الدعوتين خاطئتان من حيث أن الدعوة للسلام ليست رضوخاً و إستكانة أو استجابة لمطلب الدول صاحبة الأمر والنهي وإنما هي اختراق لجدران المأساة الخانقة، ووثبة نوعية إلى فضاء سياسي و اقتصادي يوفر إمكانات التقدم والتحرر وبالتالي فهي تشكل خياراً عربياً أخلاقياً يسمو على غيره من الخيارات؟
قد يقول قائل أنني أمهد لتزيين الإذعان للهزيمة بل الخيانة تزييناً وأتبجح بدل التستر عند البلاء، فكفانا عرباً ما نحن فيه من ذل الاتفاقات والصفقات التي يعقدها الواهنون من الحكام والقيادات. لكنني أقول إن علينا النظر في ما وراء الشعارات وان نواجه أنفسنا عقلا ونتخاطب بتأني الذي يتبين الخطأ من الخطوات فأنها و الله ليست رقبة الكلمة أو النظريات المطروحة تحت المقصلة بل أرقاب فلذات أكبادنا ومستقبل شعوبنا أحياةٌ هي لهم أم ممات. فجليٌ أن عالمنا الذي نحن فيه يتشقق تصاعديا بين كتلة دينامية صناعية ينكب أصحابها على تفتيت الذرات والتجارب بالخلايا متعددة الاستعمالات وأخرى استهلاكية متخلفة تعتاش على الفضلات علمية كانت أم منتوجات. ولن يزداد البؤس إلا بؤساً و الفقر إلا فقراً أللهم ألا عند تلك الشرائح و أولئك الأفراد الذين هيأت لهم الظروف للإنسلاخ عن وضعية بقية مجتمعهم فأصبحوا الاستثناء. فهل من الأفضل لعالمنا العربي أن يستمر انجرافاً في حِربه المسعورة والمتصاعدة ضد هذا العالم الأول مستعينا بالأحلام والشعارات والتنظيرات أم هل من الأفضل أن نعيد الحسابات و أن نضع أهدافاً من شأنها إنقاذ شعوبنا من مصير متجه نحو الهلاك ؟ هل نظل أسرى للماضي، نستمر في إجترار عظمته وأحزانه، ساعين لإستعادة ساعة قد ولت، أم نتجرأ لإطلاق العنان لصنع مستقبل يخاطب الأزمة الوجودية المتفاقمة للإنسان العربي؟
ولنبدأ فلسطينياً بمواجهة صريحة وإن تكن مؤلمة للمعاناة اللاإنسانية لذلك اللاجىء الإنسان حيث بداية الظلم والمأساة ولنسأل أيهما أُفضل: أن نقضى بالحكم على مولود يرزق اليوم في مخيم منكوب في الشتات يفتقر إلى أدنى أسباب الحياة أن ينمو محروما من حقه في التمتع بما من شأنه أن يمكنه من تحقيق ذاته، أكان في مرحلة طفولته أم شبابه أم رجولته أم شيخوخته، وهو حفيد لذلك المسكين الذي انتزع ظلماً م
.ن أرضه ومسكنه، إنتظاراً أو سعياً لتحقيق وعد بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء و إزالة الظلم من أصله؟ أم أن ننتزعه فوراً من مأساته فنوفر له حاضراً ومستقبلاً يتساوى فيه مع بقية أبناء شعبه والشعوب من حوله أكان ذلك وحسب خياره على تراب وطنه وفي دولته حراً سيداً، أو مواطناً كامل الحقوق في دولة مضيفة له، مع كامل تعويضاته على ممتلكاته ومعاناته؟ أما الخيار الأول فيعني أن يظل بالأغلب محروماً طيلة حياته، أن لم يكن لأمر آخر فلأن الماضي الذي يتمنى استعادته (مسكناً ومحيطاً ولحظة) قد استحال ذاكرة (أو رواية ذاكرة) لا يطابقها واقع، وأمَرُّ الأمرين هو أنه حتى لو عاد مستقبلاً فهو لن يكون قد عاد على الماضي الذي يتمنى أو يسعى؛ وأما الخيار الثاني فإن لم يكن سعياً لتحقيق العدالة المطلقة، وهي التي تجتث الظلم من أصله، و تعيد كتابة التاريخ، فهو خيار يوفر أسباب صياغة مستقبل جديد لهذا المولود، ليس عادلاً بالمطلق المستحيل و لكن بالممكن الذي يصوغه السيد الحر في وطنه. إن مواجهة جريئة لمأساة اللجوء والمخيمات والحالة النفسية والمعيشية التي يعانيها البائسون من أبناء الشعب الفلسطيني وخاصة في الشتات إنما أصبحت واجب فرض على من يتبوأ مقاليد السلطة والحكم والرأي، ليس فلسطينياً فحسب، و إنما عربياً كذلك إذ لن تقتصر الآثار الايجابية لحل هذه المأساة على الساحة الفلسطينية فحسب وإنما سوف تمتد لتشمل الساحة العربية، فتجلب الاستقرار للعلاقة بين الفلسطيني وأخيه العربي.
ثم فلننتقل إلى حالة الإحتلال والاعتراف بدولة إسرائيل ضمن حدود الرابع من حزيران من عام 67، حيث نجد أنفسنا أمام نفس الخيارات، فهنالك يافا وحيفا من جهة، و تشكلان مع بقية الأراضي التي أصبحت إسرائيل حوالي 77 بالمائة من أرض فلسطين، وهنالك البقية المتبقية تحت الإحتلال والتي تتناقض بفعل الإستيطان مع تقادم الزمن، فهل من الممكن و الأفضل إستمرار الصراع الدموي لعل وعسى أن تتحقق العدالة المطلقة؟ أم إن الواجب يحتم اختصار شر التشرذم والإحتلال ووضع أساس لبناء مستقبل جديد، يتمكن فيه ومنه الفلسطيني السيد والحرّ أن يتفرغ لتعويض حرمان الماضي بمنظومة سياسية وإجتماعيه ديمقراطية توفر له أسباب الحياة الكريمة و تحقيق الذات أسوة بالمجتمعات الحرّة؟ ومرَة أخرى فإن آثار هذا القرار لن تقتصر على فلسطينيي دولة المستقبل، أكانوا من المحتلين أو العائدين، بل سوف تتجاوزهم للتأثير أولاً على نضال فلسطيني إسرائيلي للمساواة، حيث إن إزالة فتيل الصراع الإستراتيجي من شأنه أن ينعكس إيجاباً على هذا الصراع الثانوي، وللتأثير ثانياً على دينامية التطور الاقتصادي والديموقراطي في العالم العربي، حيث قد تتفرغ الأنظمة و الشعوب هناك لمعالجة أزمة التشقق العلمي والإقتصادي المتصاعدة هندسياً بين العالم الأول ودول الشعوب المتخلفة تنموياً، والذي يستجلب للذهن صورة التشقق في الطبقة الصخرية بين القارات.
ثم فلننظر بشكل أعم إلى طبيعة العلاقة مع إسرائيل، تلك الدولة التي تجسد حقاً وكما نقول من باب العداء لها امتداداً للعالم الغربي، ولعالم الديانات والحضارات الأخرى، لنسأل ما إذا كان دورها عدواً ومانعاً للتواصل مع ذلك الأخر ايجابياً بالفعل أم من الأفضل أن نعيد صياغته ليصبح جسراً وباباً عريضاً للتعرف على ذلك الأخر و التفاعل معه. فهل لدينا من أصالة وعراقة وتاريخ ورسالة سامية ما نحن واثقون منه ومن قدرتنا على إفادة الآخر منه، حتى عندما نفيد نحن من ما عنده؟ أم هل أننا غير واثقين مما لدينا فنخشى فقدانه مع لحظة الإنفتاح على الأخر؟ فها هي إسرائيل أمامنا، أما سد منيع يحول دون الانبعاث علينا إزاحته، و من ثم العمل على إزاحة قاعدة الآخر من دونه ومن وراءه، أو طريق نسعى من خلاله إلى التواصل مع ذلك الآخر، ديناً وحضارةً وعلماً، فنجتث أنفسنا من مستنقع تتناقض فيه مساحات الحرية والحقوق الفردية والعيش الكريم والإبتكارات والعلوم والأبحاث والصناعة والاقتصاد، بل مستنقع متنام سكانياً ينتشر فيه الجهل والأمية ويسوده الظلم والاستغلال والاستبداد بالناس وهم، كما إستشربنا وجدانياً من آبائنا الأوائل، قد ولدتهم أمهاتهم أحراراً يستحقون التعامل سواسية كأسنان المشط.
وكذلك الحديث عن الإسلام، هذا الدين الشريف الجميل السمح الذي غضضنا النظر عن قيام الجهلة بالاستيلاء عليه، فأمعنوا في تشويه صورته، و أحالوه من دين المحبة والرحمة والانفتاح والحضارة المتألقة إلى عقيدة الكره والإرهاب وقطع الرقاب، أفهل ننقل إلى العالم من حولنا رسالة إيماننا بجميع الأنبياء،لا نفرق بين أحد منهم، وإلهُنا إله واحد لا نعبد إلا هو وهو الرحمن الرحيم، أم نشن حرباً شعواء على الآخرين لأنهم يؤمنون بسيدنا إبراهيم وسيدنا المسيح عليهما السلام؟ وهل من شأننا أن نصوغ ذلك الفضاء السياسي لكي يطلق العنان لعمالقة العلم والفكر الجدد أم أن قدرنا هو فقط أن نستشهد بعمالقة الزمان الغابر، و الذين إنما تألقوا أصلاً بسبب إنفتاح الإسلام على بقية الحضارات؟ وأهل عن طريق الإكراه أم بالقدوة الحسنة أو عن طريق الكره أم بالتسامح والمحبة نستأثر بقلوب الناس؟
قد حان الوقت فلسطينياً وعربياً على صعيدي قادة الحكم والرأي للتعامل مع هذه الخيارات بشكل واع وجريء وصريح، فإما التخبط أو الثبات، و إما السياسة الواعية و الصريحة، أو التردد والعمل الخجول بالخفاء، و إما السماح للتطرف الغوغائي تحت شعار الوطنية تارة والدين تارة أو مسك زمام الأمور من باب الثقة بأن خيار السلام هو الأفضل، أخلاقياً ودينياً ووطنياً، و الواجب يملي التمسك به كمصلحة عليا وتطبيقه؛ ولنبدأ معا مع السلطة الفلسطينية الجديدة، ولتأخذ عهدا بوضع حد للرياء والازدواجية في الخطاب، فتطرح الخيارات الحقيقيه للنقاش، و تطرح مشروعاً سليماً متكاملاً واضحاً كرزمة واحدة، مهما بدا مؤلما في أول الأمر، فتتنزه عن الشعبوية والمزايدات، حتى يبان الزبد من الرغاء، و تنحى بنفسها عن مسلكية تأجيل معالجة الأساسيات، فتجنبنا مزيداً من الخسائر المادية في انتظار لحظة الحقيقة كما هو الحال؛ وتنحى عن التمويه، فتجنبنا نمو مسرح سياسي يصول ويجول فيه مرتزقة أجهزة المخابرات الأجنبية بوجوه بالكاد تمييزها عن الوجوه السياسية المخلصة، بحيث يصبح الشعب فاقداً لقدرة تسيير ذاته لاختلاط الغث بالسمين؛ واليوم وقد غادرنا الرئيس عرفات، ولم يعد يبق من بعده من يمكن أن تضع الحكومات العربية يدها في أيدي السلطة، فينادون معاً وبصوت واحد لتحقيق هذا السلام الممكن، وهو إعادة الأراضي السورية المحتلة إلى أصحابها الشرعيين، وإقامة الدولة على أراضي الـ 67، مع القدس المحتلة عاصمة لها، ومع حل مشرف لمأساة اللاجئين، بما يضمن تعويضهم وتوطينهم حيث هم أو في بلد من اختيارهم أو إعادتهم إلى الدولة ليساهموا سواسية مع إخوانهم في بنائها. فإن جنحت إسرائيل لهذا المشروع الواضح( ومن مصلحتها هي ذلك) ننهض سوياً لصياغة تاريخ جديد. و إن لم تفعل فلا ضير. بل نعمل فلسطينيا و بمناهج نضالية سلمية على تحقيق إستراتيجية مختلفة تعتمد المطالبة في إطار الدولة الواحدة بحقوق البقاء والعودة والمساواة، ليس لبعث ماض غابر، بل لإحياء مستقبل جديد في ظل دولة وسطية، لا شرقية ولا غربية، متعددة المشارب والأديان، ولنكن عربا و إن خسرنا الحرب قد كسبنا السلام، وأسسنا لمستقبل عربي جديد، والحرب أصلا إنما وسيلة، تماماً كالسلام، أما الهدف فهو العيش الكريم بمساواة، و توفير مساحة الحرية للفرد كما لأخيه الإنسان، فهنا تكمن العدالة الممكنة على الأرض، وأما العدالة المطلقة فهي في السماء ولرب العالمين.