" إقرأ "...!

   صحيفة القدس 23\11\2001

تتوالى ردود الفعل الغاضبة إثر ما ورد في مقال "أما بعد..."، الذي نشر يوم 21 أيلول 2001، وما نشر من تصريحات على لساني للصحافة ولجمع من الإسرائيليين في الجامعة العبرية حول نفس الموضوع، وكأني ألمس كم ردود الفعل هذه، على اختلاف أشكالها، تحميل مسؤولية الواقع المؤلم للذي يفصح عنه بصدق وأمانة، وكأن الذي يصف

الواقع كما يراه هو نفسه المذنب في كون الواقع على ما هو عليه، ناهيك عن شعوري الآخر بأن قلة فقط امتثلت لقوله تعالى "إقرأ..." قبل أن تشهر أسلحتها الهجومية على ما قلت، والغالبية أشهرت السلاح على ما توهمت ولم تقرأ.

وحيث أن الموضوع قيد البحث هو في صميم الوجدان الفلسطيني، وحيث أن شعبنا المناضل، وعلى رأسه اللاجئون في المخيمات يستحق الصدق والمروءة والأمانة، ويكفيه من الكذب والرياء الجياش الذي لا يأبه صاحبه "المرفه" بخمسين عاماً أُخر من معاناة غيره، وحيث انني أومن أن حل مشكلة لا يتأتى إلا من خلال معرفة "كنهها"، كشرط ضروري واستحقاق ديمقراطي، فلقد رأيت لزاماً عليّ توضيح بعض الأُمور، متمسكاً بالحقيقة ووصفها كما هي، بعيداً عن الخطاب السياسي العربي المعهود، الذي لا يحترم عقل الإنسان العربي، وهو الخطاب الذي ساهم ولا يزال في مآسي اللاجئين.

1- لم أدع يوماً للتخلي عن "حق العودة للاجئين"، ولكنني أشرت إلى استحالة تنفيذ هذا الحق بمعناه الحرفي، وخاصة في ظل العملية السياسية الراهنة، وقلت بأن موقف إسرائيل بخصوص تسوية ترتكز إلى قرار مجلس الأمن رقم 242، والذي يمكن أن تتمخض عنها إقامة الدولة الفلسطينية، إنما هو مشروط برفضها القاطع لإعادة اللاجئين الفلسطينيين وأبنائهم وأحفادهم إلى ديارهم الأصلية داخل إسرائيل، الأمر الذي يعني أنه إذا ما كنا عاقدين العزم على انتزاع أنفسنا من حالة الصراع الراهنة، والمضي قدماً في العملية السلمية الراهنة من أجل التوصل إلى هكذا تسوية، فعلينا مواجهة الحقائق ومعرفة الثمن الذي ينبغي علينا دفعه، والتصريح بذلك جهاراً لأنفسنا وللآخرين، وما شأن الغموض والتردد في هذا المجال إلا تدني سقف ما يمكننا انتزاعه من الطرف الآخر في العملية التفاوضية.

2- إن القول الذي قلت لا يعبر عن موقف بقدر ما يعبر عن واقع، وإذا ما رأى غيري واقعاً معاكساً وأفضل، وتحققت رؤيته، فلن يكون سعيداً أكثر مني، وليس أكثر حسماً في تبيان الواقع من الأيام وما سوف تأتي به.

إن الإشارة غلى الواقع، والتعبير عنه، ورفع لثام الوهم والإيهام عن الحقيقة، إنما هو من مسؤولية العاقل كان من كان، فما بالك بالقائد الذي يتبوأ منصب المسؤولية الرسمية، فإنه هو أول من يجب أن يتحمل مسؤولية قول الحقيقة للجماهير، وغريب ذلك المنطق القائل بأن على القائد الذي يقول الحقيقة أن يتخلى عن منصبه، أو أن يعزل، أو أن على أصحاب الرأي التضليل أو الكتمان، وكأن لسان حالنا يقول: مزيداً من الكذب والرياء والخطاب المعسول، فهل هذا نصيب اللاجئ المسكين في المخيمات، ونصيب الجماهير التي تقطر دماؤها في مقارعة الاحتلال؟!

3- من بداهة الأُمور أنني لا أمتلك أصلاً حق التنازل عن أي حق كان، بل ولقد ذهبت إلى أكثر من ذلك، بالقول في مطلع إنطلاق العملية السلمية في مدريد، وكذلك في الآونة الأخيرة، أن أي تسوية يتوصل إليها الطرفان، يجب أن تخضع للاستفتاء الجماهيري، داخل وخارج الأراضي المحتلة، لكن من متطلبات الاستفتاء وضع الحقائق والمعلومات في أيدي الجماهير، والتعامل معها كما تستحق، إذ لا يعقل أن تدفع هذه الجماهير ثمن المآسي والنضال، ثم أن تحجب عنها المعلومات، أو أن تستبعد من القرارات، فالجرأة التي يتحلى بها شعبنا في مقارعة الاحتلال، تضاهيها دون أدنى شك الجرأة في التعامل مع المعطيات والخيارات.

4- إن حق الشعب الفلسطيني، بمن فيهم وعلى رأسهم الطفل الذي يولد اليوم في المخيمات، أن يستنشق الحرية ويعيش بكرامة على أرضه، في ظل دولته المستقلة والديمقراطية الحقة، ليس أقل أهمية من حق العودة بمعناه الحرفي، ومن الواضح أن الأول ممكن التنفيذ في المرحلة الراهنة، بينما يبقى الآخر رهناً بواقع غير ملموس، وإن كان على إسرائيل الإعتراف بمسؤوليتها التاريخية، وبالتعويضات وبإعادة ما أمكن لمن يريد إلى ديارهم الأصلية، فإن على القيادة الفلسطينية أن تتحمل أيضاً مسؤولية توفير الحياة الكريمة والمستقبل الواعد للأجيال الجديدة من أبناء المخيمات في الوطن والمهجر، ولا تتأتى هذه الحياة الواعدة عن طريق الخطابات والمقالات والبيانات الاستنكارية، وإنما تتأتى عن طريق المعالجة الفورية والعادلة لسكان المخيمات، فإقامة الدولة الديمقراطية الحرة هي مسؤولية تاريخية للقيادة الفلسطينية من أجل معالجة الوضع المأساوي للاجئين، ولا يعقل لمن يتقي الله أن يتركهم خمسين عاماً آخر مقابل خطاب معسول لا يحاكي الواقع السياسي الذي نعيش.

وأما إذا كان الرأي الاستراتيجي غير ذلك، إذن يجب أن نناقشه ونواجهه بجرأة وشفافية، ولنضع مساراً نضالياً آخر، كالمطالبة، كما قلت أيضاً في يوم ما، بحق البقاء والعودة والمساواة، ولكن أياً كان الخيار، فلنواجهه بجرأة وإقدام، ولتكن إستراتيجيتنا واضحة المعالم، دون تضليل ولبدأ النقاش في الموضوع في مجالسنا التشريعية وعلى رأسها المجلس الوطني الفلسطيني.

5- أُشير أخيراً إلى القدس الشريف، وإلى المقدسات الإسلامية والمسيحية فيها، فالقدس ليست ملكاً لسكانها فحسب، وهي ليست لفلسطيني دون آخر، فهي للاجئ كما للنازح، وللبعيد كما للمقيم، وهي ليست جوهرة الشعب الفلسطيني ومسؤوليته فقط، بل هي للوطن العربي كما للأُمة الإسلامية، ومن هنا، فإن استعادة القدس للعروبة والإسلام، وتخليصها من الاحتلال وجعلها عاصمة للدولة الفلسطينية، إنما هو أمر لا يستهان به، وواجب على كل فلسطيني أئتُمن بالدفاع عن هذه المقدسات، ومن هذا الباب، فإن الموقف الحازم والواضح أيضاً بشأن القدس، في العملية التفاوضية الراهنة، يشكل أيضاً مسؤولية تاريخية للقيادة الفلسطينية، كما يشكل هدفاً تفاوضياً لكل فلسطيني أينما كان موقعه.

6- أشرت في مقالي "أما بعد ..." إلى عقم الرجوع إلى الاتفاقات المرحلية والجزئية، وإلى عقم المفاوضات التي لا تعالج الأُمور الجوهرية، وإلى ضرورة التحلي بالجرأة في مواجهة ومعالجة ما جرى تسميته بأُمور "المرحلة النهائية" من المفاوضات، وأقول ثانية أن المشاريع الإسرائيلية المطروحة، كمشروع شارون أو بيرس، أو غيرهما، إنما هي مشاريع تتحرى أيضاً إلى تأجيل البت في هذه الأُمور، ليس لشيء إلا لكي تتمكن إسرائيل من تثبيت واقعها الذي تريد في هذه القضايا، وعليه أقول أنه بدلاً من الانتظار للمبادرات السياسية من إسرائيل، أو من غير إسرائيل، فلتقم القيادة الفلسطينية بتصميم مبادرتها، ولتكن مقدامة في الساحة السياسية كما أثبت شعبها إقدامه في ساحة النضال، ولنطرح شكلاً متكاملاً للحل النهائي، ولنقل للعالم أجمع، هذا هو الشكل، وليس هذ أمراً تفاوضياً، فإما أن تقبل إسرائيل به، وأما أن نتبنى الخيار الآخر "البقاء والعودة، والمساواة".