ـ الكيان السياسي (كالفرد) يسعى بطبعه الى البقاء. لذا يمكن فهم الحركة السياسية الي قام بها الرئيس محمود عباس مؤخرا (اجتماع الأمناء العامين) كتكتيك يضمن له وللقيادة هذا البقاء في وجه ما ظنه مؤامرة لاستبداله وطاقمه جراء خطة صفقة القرن، وخطة الضم، و”السلام” الإسرائيلي-الإماراتي.
ـ “الثمن” الذي اضطر أن يدفعه محمود عباس إزاء تلك الخطوات هو “تصليب” موقفه السياسي (من المفارقة بمكان أن شروطه للمفاوضات التي أعلن أنه لن يحيد عنها الآن هي نفسها التي كان قام هو نفسه بالحياد عنها في أوسلو؛ وقبوله في البيان الختامي الإشارة الى المقاومة “الشاملة” يشرعن المقاومة المسلحة التي طالما أعلن أنه لا يؤمن بجدارتها والتي إن تحقق منها شيء فلن يكون أفضل من إعادة نسخ غزة في الضفة!).
ـ بدفعه هذا الثمن يضع عباس نفسه في نفس ذلك الفخّ الذي توهمه بدءا، أي في دائرة الاستهداف أو الاستبدال، أكان من أطراف حوله أو من خارج أو من كليهما.
ـ سوف يقود هذا الوضع إما لـ “قيادة” تتعاطى مع المخطط الأمريكي، أو لفوضى سياسية، أو لتفجر انتفاضة مسلحة (في الضفة)، أو لكل هذه معاً.
ـ من الواضح أن أيا من هذه التبعات لن يقدّم في أيّ من “الحلول” التي يرتضيها هذا الطرف أو ذاك من الأطراف الفلسطينية، بل سوف يزيد من هذه الحلول تعقيداً (بعض الإسرائيليين بدأ بالتنظير بضرورة مواجهة “المقاومة المسلحة” بمقاومة مسلحة مضادة – لنا تخيّل ما قد يعنيه هذا).
ـ بالتالي، يتوجب على عباس إعادة حساباته (أكان ذلك لمصلحة شعبه أو مصلحته الخاصة). الطريق لذلك هو يتمثل بمراجعة العلاقات مع كل الدول العربية، بهدف استعادة الإجماع العربي، لإعادة ترسيم إطار ومضمون سلام بيننا وإسرائيل بشكل يتجاوز المخطط الأمريكي ويتناسب مع مفهوم القيادة الفلسطينية لحل وطني، وفقاً لما تعتقده هي.
ـ كما يجب عليه (وعلى القيادة معه) مصارحة الشعب بما هو مستعد فعلا للتعاطي معه في أية مفاوضات محتملة (الإشارة الى استعداده لتبادل “متر هنا ومتر هناك” هو استسخاف بعقول الناس المطلعين على ما استعد طاقمه التفاوضي تقديمه).
ـ كما عليه مواجهة واقع أن تعاقب الإدارات الأمريكية (والتي تعاقبت بالفعل من جمهوريين وديموقراطيين منذ مؤتمر مدريد) لن يغير من موقف أمريكا الكثير، وأن الأمم المتحدة والمجتمع الدولي يبيعنا كلاماً فقط.
ـ والآن نأتي لضرورة المصارحة مع أنفسنا: تناول زملاء كثر في الآونة الأخيرة سؤال “ما العمل؟”. لكن السؤال الأهم هو: “ماذا يتوجب علينا أن نريد؟”! يختلف هذا عن السؤال “ما الذي نريد؟” لأن جميعنا بشكل أو آخر نريد كامل حقوقنا الفردية والجمعية غير منقوصة. لكن تقع على عاتق قيادتنا تحديد مصلحتنا الوطنية في ظل المعطيات السياسية السائدة. لا تكمن مصلحتنا في البدائل سابقة الذكر (انتفاضة مسلحة، أو استبدال عباس، أو مفاوضات بقيادة ضعيفة). أيضا، التمسك ب “ما نريد” (القضاء على الكيان الصهيوني واستبداله بكيان فلسطيني جامع يتيح عودة فلسطينيي الشتات الى ديارهم الأصلية) ما يفتح إمكانات مستقبل غير محدود الزمن أو المآل أمامنا على مصراعيها. ثم لا ندري ما إذا كان طريق “السلام” أصلا لن يؤدي الى ما ترغب به النفوس على المدى الطويل. يفرض المنطق إذن أن تجد القيادة طريقا مناسبا لاستئناف المفاوضات على أسس صحيحة ولا تشكل غبنا بحقوقنا أو بروايتنا الوطنية.
ـ مع انعدام وجود ما جرت تسميته (حقا أم باطلا) “دول المواجهة” للارتكاز إليها والتحالف معها فالطريق المتبقي لإيجاد أفضل السبل لاستئناف هذه المفاوضات الآن، وأيضا من منظور الخيار الذي تنتهجه القيادة، هو استخدام “القوة الناعمة” التي أصبحت تحوزها بعض الدول، كالحصانة الأردنية للأقصى، والمصرية للحدود، والقطرية للاقتصاد الغزي، والإماراتية الآن لسوق العمل والاستثمارات، على سبيل المثال، وفقا للمعطيات المنظورة. يُلزمنا العقل هنا أن تلجأ القيادة الى هذه الدول (فرادى أو جماعات) للتعاون معها من أجل تحصيل أفضل الشروط للعودة الى المفاوضات.
ـ باختصار، رغبنا أم كرهنا، استمرار بقاء القيادة في هذه المرحلة وإخراج نفسها من الفخ الذي وضعت نفسها فيه ربما هو أكثر الخيارات الممكنة لنا كشعب. لكن عليها سريعا أن تعيد حساباتها وفق المصالح وليس وفق التمنيات. وعلى قيادة فتح تحديداً أن تعمل لإعادة بناء منظمة التحرير، على أسس وطنية وتمثيلية وديمقراطية، وأن تعيد بناء حركة فتح، بحيث تعود حركة وطنية تجمع كل تيارات الشعب الفلسطيني؛ ليس منطقياً أن يستمر هذا الانقسام الفلسطيني، ولا هذا التصدّع في كبرى الفصائل في وقت نحن أحوج ما تكون لاستعادة “فتح” كحركة وطنية تعددية وموحّدة، وكأكثر حركة سياسية تشبه شعبها.
ـ أخيراً، وبخصوص تعزيز الديمقراطية في صفوف الشعب الفلسطيني وتجاوز الانقسامات والخصخصة الفصائلية الخ. وإلى أن تتم الانتخابات للمنظمة والسلطة فإن أفضل السبل في هذه الظروف الطارئة هو أن تقوم القيادة بطرح ما تتوصل اليه في المفاوضات لاستفتاء عام يشمل كافة أبناء الشعب الفلسطيني. تكون القيادة عندئذ قد قامت بواجبها، ويتحمل الشعب بعد ذلك كامل مسؤوليته على ما قد يتبع.
سري نسيبة